ساعة يدي التي تعطلت

20 يناير 2016
بدايات جديدة لخبر كان (getty)
+ الخط -


فقدت ساعة يدي ليوم كامل، أو بالأحرى هي فقدت الطاقة اللازمة لحسبان الثواني والدقائق وقيام الساعة. ساعتي غادرت معصمي نامت ليلةً واحدة دون لفّ ودوران، هادئةً دون أي تكتكات.

تلتقط أنفاسها ريثما يعود الزمن الضائع بيننا. ساعتي تفتقد نظراتي المعتادة الموزّعة بي نهار وليل، تفتقد رفعها صوب وجهي بمحاذاة الضوء كي أتمكن من تحديد الوقت. وقت الإستيقاظ، وقت القهوة ووقت مغادرة المنزل.

لساعتي مواعيد محددة كموعد موت أول ضحيّة لهذا النهار المثقل بالقتل والهتك والسفك والذبح. تتوقف ساعتي عن إخباري تفاصيل الموت بينما الموت لا ينسى أحداً. لم أعد أعرف الوقت الفاصل بين ضحيّة وأخرى، بيد أن موعد تناول الوجبة الأولى ليس بحاجة لساعتي، فساعتي البيولوجية تتكفل به.

قليلاً ما أخون ساعتي لكن عندما تخونها طاقتها على احتمال تحريك العقارب التي تقرص الوقت كل ثانية فحتماً سوف أخونها وأنظر إلى ساعة الهاتف المحمول. لا أعلم لماذا نحاصر أنفسنا بكل هذه التكتكات؟ الأمر أبسط من كل هذا التعقيد. الوقت سيمر إن نظرت إليه أو إن ضربت مواعيد محددة. الوقت سيمر إن قسّمته لساعات أو أيام أو سنوات.

الوقت وقت بمعزل عن الضبط والإكراه والتمرحل. الوقت لا يفقه سوى الانسياب بين أفعال مشيئتنا. الوقت حيلتنا. حيلة لتفادي ما هو أعظم منه شراً. الوقت أخطبوط جاثم على صدر الكوكب. قد نختزله بعقربين أو ثلاث، أو نكدّسه واهمين في خانات رقمية. أما هو فلا يأبه لكل هذا الوهم. الوقت وقت.

لا يفرّق الوقت بيننا، نحن من نفرّقه ونؤطّره في مناسبات مختلفة، كالأعياد الموسمية مثلاً، أو كأعياد ميلادنا التافهة نستذكر فيها لحظات الولادة بقطعة حلوى وهدية وشمعة تكره الوقت، تكره وقت احتضارها.

الوقت ينساب بغض النظر عن نظرنا إليه، فنحن لا نلاحظه إلا بعد انقضائه فتلقاه يتجلى تجاعيد على وجه ما، أو يظهر في صورة ظننا يوماً أننا أسرنا الوقت بإطار ذهبي على الحائط. يمر الوقت في اللحظة التي نكون فيها منغمسين بتفصيله. إذا أردت أن تتأكد من مروره فافتح محفظتك وأخرج بطاقة هويتك وانظر إلى صورتك، ستضحك للوهلة الأولى لكنك سرعان ما ستدرك كم مرّ من الوقت.

هذه الساعة المعطلة قجّة مثقوبة للوقت. لا تراكم أي تفصيل يتقاطع مع الوقت. أما ذاكرتي فهي الحافظة، يتراكم فيها بعض لا بأس به من الوقت وتقاطعاته. لكن هذه الذاكرة أيضاً قد تتعطل وتتنازل عن الوقت وتُبقي لي الصورة المجردة.

تحافظ الصور أحياناً على سياقها المكاني وتستغني عن الزمن، وقد تحتفظ بتفاصيل دقيقة كلون القميص الذي أهدته لي حبيبة سابقة. الذاكرة تنتقي اللحظات وفقاً لما تريد، لدرجة أنك إذا احتفظت بصورة كاميرا قديمة وتحمل تاريخ التقاطها قد لا يعني لك هذا الوقت أي شيء بقدر ما يعني لك سرّ تجهّمك آنذاك. ربما الوقت يقتل بعض الذكريات لكنه ليس كما قالت فيروز بأن الوقت يقتل الحب أو الحب يقتل الوقت، فكلاهما يموت على حدة.

آنذاك. كل صورة تلتقطها تصبح آنذاك. هل تذكر آنذاك عندما كنت....، آنذاك، كان، كنت،..كل أفعال الماضي المكتملة والناقصة هي حيلة لاستعادة الوقت الذي مضى. عبثاً أن تستعيد الزمكان برمته وهذه نعمة إضافية لدماغ يسجل نقطة إيجابية في صراعه مع الوقت.

إن طرائق عمل الدماغ، لا بل أواليات الدفاع فيه كي يحمي نفسه من التعب، تتجلى في صراع شديد مع الوقت. إنه ينتقي ما يمكن إتلافه. ينتقي ما يمكن الاحتفاظ به لوقت أطول دون أن يلقى حتفه في مستودعات الذاكرة الرطبة. يترنح الدماغ بين آنذاك وكان والآن وكل أفعال الزمن دون أن يُتعب نفسه في تفاصيل المكان، فلا مكان دون الزمن.

الساعة الواهنة إلا خمس دقائق. فلتسترح روحك بعيداً عن معصمي. ولتبتعد التكتكات عن أذني الراقدة بسلام. لتسرح العقارب وتسترح الثواني ويهنأ دماغي بلحظات خارج الوقت. ليبقَ الوقت إلهاً منزّهاً عن تفاصيل النهايات. ليبق الوقت بمنأى عن بدايات يعتمرها الوهم تظن نفسها، أو نظنّها، بدايات جديدة في الوقت التي تبدو فعلياً في خبر كان.


إقرأ أيضاً: فرقة ترشيحا: الموشحات والرحبانيات... والقصبجي
دلالات
المساهمون