ساره تبحث عن هويّتها الأوروبية العربية في الرقص

08 أكتوبر 2014
من الرقص الشرقي في اوروبا (دانيال ميهايليسكو/Getty)
+ الخط -

أمام الكاميرا الثابتة نرى الغرفة البسيطة حيث تسكن الطالبة الجامعية. هناك الثلاجة والمايكروويف ومكتب الدراسة وطاولة الطعام. هي في زاوية المشهد تضع الـCD. نسمع الموسيقى. تتوجّه الشابة إلى منتصف الغرفة وتبدأ بالرقص.

الموسيقى مزيج من التكنو والإيقاعات الشرقية المكسّرة، أما الرقص فهو في هيئته الأولى يبدو شرقياً، لكنّه متعدّد أكثر ممّا يبدو، وممزوج بشيء من الرقص الغربي.
الشابة التي بدأت عامها العشرين لا تظهر على وجهها تعابير الاحتراف وقوّته وإنّما شيء من الطفولة التي توشك على مغادرتها، وتصميم يجعل من التمرين على الرقص يتعدّى فكرة التمرين ليصير أشبه ببحث عن هوية ما. 

إنّها ساره جاكان. من أب فرنسي وأم لبنانية. عاشت طفولتها ومراهقتها في لبنان إلى أن ذهبت منذ عامين إلى مدينة مونبولييه في فرنسا لتبدأ دراستها الجامعية. في بيروت لم تكن ساره "لبنانية"، كانت "فرنسية" تتعلم في الليسيه، معظم أصدقائها من الفرنسيين المقيمين في لبنان أو من اللبنانيين الفرنكوفونيين من زملاء الدراسة. لذا، بقيت لغتها العربية مكسّرة رغم أنّها تفهمها وتستعملها في التواصل مع الناس، إلى جانب لغتها الفرنسية الأصلية.
قبل أن تغادر ساره بيروت لم تكن "كثرة الأسئلة" ظاهرة عليها، كانت تبدو مطمئنة إلى حالتها كأجنبية مقيمة في بيروت، تعيش في عالم موازٍ لما يحصل في السياسة وفي الشارع.
حين رأيتها بعد سنة من سفرها، بدت مختلفة، كأنّها تغيرت، نضجت، كثرت أسئلتها. حتّى في شكلها، بدت أكثر "شرقية". في فرنسا، توسّعت دائرة أصدقائها لتشمل، بالإضافة إلى الفرنسيين، عرباً مهاجرين من جنسيات مختلفة. كأنّه كان عليها أن تذهب إلى البلد الذي تحمل جنسيته لتكتشف هويتها المركّبة.
تقول ساره إنّها خلال السنة الأولى من إقامتها في فرنسا اكتشفت، من خلال بحثها على الانترنت، هذا النوع من الرقص الذي يطلق عليه اسم "ترايبل فيوجن" أي "دمج أو انصهار قبلي" إذا صحّ التعبير، وهو نوع من الرقص تبلور في الولايات المتحدة الأميركية في بداية التسعينيّات مع مصممة الرقص كارولينا نيريكو، التي تتلمذت على يد الراقصة جميلة سيلامبور.
والأخيرة بدأت ملامح هذا النوع من الرقص تظهر معها في مرحلة الأربعينيّات بأميركا. جمعت نيريكو في رقصها كلًّا من الشرق أوسطي والتركي والمصري والمغربي والبربري والهندي والفلامينكو إلى جانب الرقص المعاصر. ويعتمد هذا الرقص على الارتجال والعلاقة "التحاورية" بين الراقصين من خلال حركات الجسد وتلاقي النظرات. أما الأزياء فهي أيضاً خليط يتنوّع من البربري إلى الهندي والكثير من الفضة.
إنّه رقص يجمع ثقافات متنوّعة واختلاطاً بين ما هو ضارب في التاريخ ومعاصر. استمرّ هذا الرقص في التطوّر ليختلط أكثر بالهيب هوب والتيكنو، وهو تحديداً ما نلاحظه في الموسيقى المرافقة له والتي هي عبارة عن خليط شرقي وغربي يتكسّر على إيقاعات إفريقية قبلية وإلكترونية. وقد وجد هذا الرقص طريقه إلى أوروبا بقوّة، ويستمرّ تنوّعه ودخول أنواع متعدّدة من الفنّ عليه.
ساره التي لم تكن تعرف كيف ترقص على الطريقة الشرقية حين كانت تعيش في بيروت، وجدت مدرّسة تعلم هذا النوع من الرقص في مونبولييه حيث بدأت تتلقى دروساً منذ حوالي العام. معلّمتها فرنسية درست الرقص في الولايات المتحدة الأميركية، أما غالبية الطالبات فهنّ أوروبيات، ما عدا أقليّة عربيّة. ساره تقول إنّها وقعت تحت سحر هذا الرقص وأُغرِمَت به. وهي تضيف أنّها ما زالت في بداية تعرّفها عليه، إذ يحتاج إلى الكثير من التمرين والمعرفة بأصول أنواع متعددة من الرقص. وهي لا تراه شرقياً أو غربياً، بل الاثنين معاً. وكأنّها بذلك تقول: أنا أيضاً الاثنان معاً.

لا يعنيني كلّ الحديث عن التقنية والتمرين بهدف الوصول إلى الإتقان الذي تحدّثت عنه ساره. فهي رغم حداثة عهدها بهذا الرقص تبدو وكأنّها في انسجام كامل مع نفسها حين ترقصه. وكأن الموسيقى التي تحرّكها تضعها على طريقها الشخصي في البحث عن نفسها. هذا تحديداً ما رأيته على وجه ساره. رأيت جيلاً أوروبياً يبحث بين طبقات هويّاته في هذه الأوروبا الهجينة. رأيت كل هذا بحبّ، بسبب انحيازي الدائم إلى كلّ ما هو هجين.   
المساهمون