لم يأت الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، الى مدينة نيس لحضور اجتماعات حزبه "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، ولكنه كان الغائب الحاضر. تشير مطالبة أنصاره الى عودته لقيادة الحزب مستبقين بذلك المؤتمر العام الذي ينعقد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل إلى أن مسألة ترشيحه لرئاسة الحزب بدت شبه محسومة، ومن المتوقع أن يعلن عنها خلال أيام.
هذا الإعلان المنتظر وانتخابه لقيادة الحزب سيفتح الباب أمام ترشحه لرئاسيات عام 2017 كما حدث عام 2007. ولكن في السياسة كل شيء قابل للتغيير، وما هو محسوم اليوم عرضة للتبدل غداً، إما بفعل تبدل التحالفات والظروف أو بفعل الفضائح التي تلاحق رجال السياسة في فرنسا هذه الأيام من اليمين واليسارعلى حد سواء. وهذا هو حال ساركوزي، الذي يفصله شهرين عن المؤتمر العام للحزب، واحتمال انتخابه لتولي قيادته، وبالتالي اختياره لخوض الانتخابات الرئاسية.
ويُجمع المقربون من الرئيس السابق أن ما جرى في اجتماعات نيس والتلميح الى عودة ساركوزي، التي وردت أكثر من مرة في القاعة كانت بإيعاز منه، وهي تدخل ضمن استراتيجية اختارها تهيئة الأجواء وتمهيد الطريق قبل الإعلان رسمياً عن ترشحه.
وقد كلف ساركوزي لهذه الغاية عمدة نيس النائب اليميني، كريستيان إستروزي، الذي التقاه منذ أيام في باريس لنقل رسالة الى جماهير الحزب، مفادها أنه "يُعلّق آمالاً كبيرة على شباب فرنسا وعلى رغبتهم في التغيير، ويهمّه أن تعرف الجماهير أنه يحبها".
وقال إستروزي، عند انتهاء أعمال المؤتمر، "هناك اسم متداول بيننا منذ يومين، وهو اسم نيكولا ساركوزي، وهو لم يأتِ الى نيس، لكنه سمع رغبة الشباب في التغيير".
هذه التصريحات لاقت تصفيقاً حاراً في القاعة وسط صرخات "نيكولا ساركوزي رئيساً". ووزعت قمصان قطنية تحمل صورة الرئيس الفرنسي السابق وكتب عليها "ساركوزي رئيساً".
كما أن تصريحات رئيس الوزراء السابق، جان بيار رافاران، وهو من أعضاء اللجنة الانتقالية التي تتولى إدارة قيادة الحزب حملت فحوى مماثلة، بوتيرة أخف لأنه لا يريد الدخول في مواجهة بعض المرشحين الآخرين كرئيس الوزراء السابق، فرانسوا فييون.
ويبدو أن ساركوزي حسم أمره حتى ولو أنه لم يعلن رسمياً عن نواياه بشأن ترشحه. ومن الواضح أن تصريحه الذي أعلنه على إثر هزيمته في انتخابات الرئاسية عام 2012 أنه "ترك الحياة السياسية" بعيد عن الحقيقة، وها هو اليوم يحضر لعودته السياسية بقوة.
وحسب المقربين منه فهو يشعر أن اللحظة الحالية مؤاتيه له بعدما تجاوز عدداً من المشاكل التي واجهته، وقد يستفيد من تدهور شعبية الرئيس الحالي، فرانسوا هولاند، وأداء الحكومة الحالية وصعود اليمين المتطرف.
في الأثناء، لم يؤكد الأمين العام لحزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" لوك شاتيل، المقرب من ساركوزي، مسألة ترشيح الأخير، إلا أنه كشف أن الرئيس الفرنسي السابق مستعد لذلك، والقرار ممكن، ولدي شعور بأنه يعلم خطورة الوضع وما يجري على الساحة السياسية، ولديه أجوبة لما يحدث".
ومما لا شك فيه أن هذه العودة المرتقبة ستعطيه دفعاً للترشح في الانتخابات الداخلية للحزب عام 2016 وللرئاسيات عام 2017، مما يغلق الباب أمام منافسيه؛ رئيسي الوزراء السابقين ألان جوبيه، وفرانسوا فييون.
لكن استطلاعات الرأي تشير إلى أن ساركوزي يتساوى مع جوبيه، وأنه ليس الشخصية الوحيدة المخولة لإنقاذ اليمين الفرنسي.
ويتضح أن أصوات منافسي ساركوزي قد ارتفعت في نيس. صعّد جوبيه وفيون من لهجتهما. ودافع جوبيه، عن فكرة الانتخابات المفتوحة لعام 2016، ولم يخفِ نيته في الترشح. وحين سُئل في احدى المقابلات عن مواجهة محتملة بينه وبين ساركوزي قال إنه "لا يمانع ذلك".
وقد ركز جوبيه في نيس على خطورة ما تنقله استطلاعات الرأي عن تقدم اليمين المتطرف، مؤكداً أنه "استخلص العبر من الذي صدر عن هذه الاستطلاعات" التي أشارت أيضاً إلى أن زعيمة "الجبهة الوطنية" مارين لوبين، قد تكون في مقدمة الفائزين في الدورة الأولى في انتخابات الرئاسة.
وأعرب جوبيه عن استيائه الكامل من ثقافة وتاريخ حزب "الجبهة الوطنية" الذي "يقف ضد الديجولية"، داعياً مناصري حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" إلى محاربة أفكار الجبهة.
وشدد على أن مسألة الانتخابات الداخلية ضرورية لمواجهة تقدم اليمين المتطرف. وقال إنه "إذا ذهبنا إلى الانتخابات مع تعدد مرشحي اليمين والوسط فإننا سنواجه الأسوأ وسيسمح هذا الوضع بوصول الجبهة الى القمة".
في المقابل، حظي فييون بتحية وإشادة مجموعة من المناصرين التي رحبت بأدائه في نيس، إذ ركّز انتقاده على هولاند الذي "يجرّ البلاد الى الفوضى"، بحسب رأيه.
وتوقف عند الحكومة واصفاً إياها بأنها "فقدت مصداقيتها وهي عاجزة". وتحدث عن "احتمالات استقالتها وحلّ البرلمان، وأن الرئيس لا يمكنه الاستمرار في هذا النهج، وعليه أن يختار كيف يرحل".
إذاً فُتحت منافسة معركة 2017، وبدأت تحتد داخل كوادر اليمين وذلك قبل الانتخابات الداخلية.
وأمام تدهور وتراجع شعبية هولاند، ووسط انقسامات اليمين وصعود اليمين المتطرف، يحاول ساركوزي، الاستفادة من هذه الظروف ليعلن خلال أيام ترشحه لقيادة الحزب وطي صفحة الماضي، ومعاناته المرّة مع القضاء بعد توقيفه واتهامه باختلاس أموال. فهو لا يخفي أمام المقربين منه أن "القضاة الذين استجوبوني أرادوا من خلال هذا التوقيف قتلي، وأنا أخرج اليوم أقوى".
يقتنع "النمر السياسي"، كما وصفته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، بأن الفرنسيين إذا أرادوا انتخابه سيفعلون ذلك في المستقبل على الرغم من محاولات تشويه صورته كما يفيد المقربون منه.
أما صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، فاعتبرت أن "حلم ساركوزي، السلس بعودة مجيدة قد انتهى لأنه يعرف أن عودته ستلاقي انتقادات لاذعة وهذا الامر يحدث حتى داخل حزبه". وتشير الصحيفة إلى أن "لا أحد غبي، والكل يعرف أنه يريد إلغاء المنافسة وخصوصاً بالنسبة لجوبيه".
يطمح ساركوزي لإحداث "صدمة قوية" داخل الحزب نتيجة الانقسامات والفضائح التي طالته مع كبار كوادر حزبه. فهو يسعى أن تكون رياح التغيير مقبلة ويأمل أن يغير الفرنسيون رأيهم فيه، وخصوصاً بعدما جربوا أداء هولاند.
ويعرف ساركوزي أن في السياسة لا شيء مضمون، وأن الطريق مليء بالألغام والأشواك، ونجاحه في بلورة استراتيجيات وعقد الصفقات والمناورة أمور غير كافية أحياناً لتأمين العودة إلى قصر الإليزيه.