في المجلد الضخم الذي صدر قبل عام واحد من وفاته تحت عنوان "النمو الحاضر للمدينة العربية"، يضمّن المعماري الفلسطيني سابا جورج شبر (القدس 1923- الكويت 1968) عدداً كبيراً من مقالاته ودراساته المنشورة باللغة الإنجليزية.
يفرد المعماري الفلسطيني في قسمه الأول فصلاً يلخّص فيه بالصورة والرسم التخطيطي مشهد العلاقة بين المعمار والمدينة العربية.
في كتابه هذا، تبرز شخصية معماري فذّ لم يظهر في الوطن العربي نظيرٌ له، إلا في ما ندر، في مجال تخطيط وتعمير المدن، لعل أقربهم إليه وإلى الذاكرة المعماري المصري حسن فتحي (1900-1989)، صاحب مشروع "قرية القرنة الجديدة" وكتاب "عمارة الفقراء" الذي تحدّث فيه عن القرنة، المشروع الذي بنى فيه منازل للفقراء ضمن رؤية خاصة بالعمارة الطينية.
اهتمام شبر بتجربة فتحي، مردّه إلى طريقة تفكيره في المعمار في المقام الأول، إذ كانت الاعتبارات الإنسانية والمناخية والبيئية أكثر ما يشغله حين يفكر ويخطط. وهي اعتبارات تعني لديه عدم خسارة الماضي المعماري وميزاته في أهم جوانبه، ألا وهو اعتبار "المدينة" كياناً عضوياً، وليست أشلاء متجمعة من هنا وهناك، ذات وظيفة تنمو تلقائياً أحياناً كما نمت بعض مدن الماضي العربي، وتنمو وفق مخطط مسبق في ضوء وعي المخططين بالاعتبارات المهمة عند التنظيم.
وفي ما يتعلق بمسألة تنظيم المدينة، يضرب شبر في كتابه مثلاً بمدينة الكويت التي جاءها بعد أن تولّى أمر تطويرها خبراء غربيون، التي لم يكن تطويرها موضوعاً غامضاً أو لغزاً أو مسألة صعبة الحل؛ كان المطلوب نوعاً من التجاذب والتنافر العمراني، والتلاصق والانفراج بدلاً من الامتداد والتفرع المنتظمين.
ويشدد شبر في ملحوظاته النقدية على أن نموذج البناء القديم كان يمكن أن يكون مصدراً تُستقى منه فكرة التطوير من عدة وجوه، وبدلاً من ذلك أغفلت عدة اعتبارات تنظيمية أساسية في تخطيط الطرق الرئيسية وإقامة "الدوارات"، والطرق غير العضوية التي استخدمت في اختيار مواقع الأبنية.
وترد في شهادته على ميلاد وتوليد عدة مدن عربية، في لبنان وليبيا وفلسطين والأردن والكويت وتونس والجزيرة العربية، خلال خمس عشرة سنة من عمله في وطنه العربي، نقط أساسية يكررها في أكثر من مناسبة وهو يحذر من النتائج العكسية التي لا بد أن تواجه المدينة التي تتوسع أكثر من اللازم.
ومن هذه النقط، أخذ العلاقات الاجتماعية في الاعتبار، لأن المدينة مكان لاجتماع السكان، فإذا كانت ممتدة أكثر من اللازم، وأجزاؤها متباعد بعضها عن بعض، والمسافات الفاصلة بين المراكز الرئيسية كبيرة، تكون مدينة لا تفي بالغرض الرئيس من إنشائها.
وعلى المخططين أن ينتبهوا إلى الناحية الجمالية، فتضم المدينة ساحات وميادين (وهي ابتكار عربي أساساً) تتدرج مساحاتها وفقاً لمتطلبات المجتمع الذي يقطنها. ثم يضرب هذا المعماري الفذ ضربة موفقة حين يقرر بحسم "يجب أن تجتمع جهود إنشاء المباني المقبلة في الوطن العربي بصورة تصلح لهذه المدن، وليس لألمانيا أو السويد مثلاً".
وتشير هذه اللهجة الحاسمة إلى أن لأي معمار هوية يستمد ملامحها من عناصر ملازمة لبيئة دون أخرى، ومجتمع دون آخر، وتاريخ تطوّر معماري دون آخر. وقد أحسن شبر حين عاد إلى ابن خلدون (1332- 1405) صاحب "المقدمة" الشهيرة، وكشف فيه عن وجه المهندس المعماري، عالم الاجتماع الإنساني ومخطط المدن، الذي سبق عصره، وما جاء بعده من عصور تعتبر الآن هي عصور العلم والصناعة.
نحن نعرف ابن خلدون عالم الاجتماع وصاحب نظرية نشوء وانحطاط الحضارات، ولكن شبر هو الأول، على حد علمنا، في إضاءة وجه مهم من وجوه الشخصية الخلدونية في دراسة لماحة نشرها بالإنجليزية، وضمها كتابه الضخم الذي أشرنا إليه.
وجاء في هذه المقالة "إن تخطيط المدن والمناطق الحضرية يعتمد اعتماداً كبيراً على فروع علمية عديدة، اقتصاد واجتماع وجغرافية وقانون وتمويل وهندسة وإحصاء وإدارة ومعمار.. إلخ، .. ومن المؤسف، بقدر ما يعني الأمر الوطن العربي أن تطبيق المبادئ السليمة في تخطيط المدن ظل مفقوداً طيلة الستين أو السبعين سنة الماضية، باستثناء حالات قليلة معزولة. المدن العربية نمت بسرعة وتحوّلت إلى تجمعات مدنية غير عملية، وغالبا ما تتناقض مع مفاهيم التمدن الراسخة والشهيرة".
وفي ضوء هذا، تظهر أفكار ابن خلدون ليست بالغة الأهمية تاريخياً فقط، بل يمكن اعتبارها إحساساً شاملا بتخطيط المدينة بمعناها المعاصر.
وهنا يؤكد المعماري ومخطط المدن المقدسي: "وحده ابن خلدون في العصور القديمة أدرك العناصر المتنوعة التي هي شروط بناء مدينة؛ كانت المدينة بالنسبة له الناس والمباني والحكم والهندسة والثقافة والمعمار والإدارة والاقتصاد، ولم تكن كياناً عضوياً جامداً، ذا بعد أو بعدين، بل كانت كياناً عضوياً متعدد الأبعاد يضاف إليها عنصر وفلسفة البناء".