سؤال الوراثة أم الإرادة؟

23 أكتوبر 2016
(رام الله في كانون الثاني/ يناير 2006)
+ الخط -

أنصفت اللغة والتعاطف العربيان الرئيس الراحل ياسر عرفات؛ فالعرب والفلسطينيون أرادوا أن يروه رئيساً، لأنهم يريدون بالأساس رؤية دولة فلسطينية؛ أما الإنكليزية، وهي هنا لغة أوسلو، فكانت تريده رئيس مجلس إدارة، لذا بدلاً من "بريزدنت" منحته الاتفاقية لقب "تشيرمان"؛ لكن العربية، المستعدّة فطرياً لمناصرة فلسطين، استفادت من أنّها لا تحوي تفريقاً بين اللقبين الأول والثاني، وتسمّي كلاهما "رئيس"، فخاطبته كرئيس.

نعلم أن الرئيس عرفات لم يكن بحاجة إلى الدفاع عن شرعيته؛ كانت فلسطين هي الأرض الموعودة، وهو المعنى والكيان، لدرجة أن الإحالات وصلت إلى ملابسه، فأضحت الكوفية رمزاً للقضية. غير أن أبو مازن، الذي لا تعاطف لغوياً ولا شعبياً معه، بقي على قياس الاتفاقية مجرد الـ"تشيرمان" يجاهد ليكون جزءاً من الرمزية الفلسطينية، ولكن عبثاً لأن ليس لديه كوفية، ولا ما هو رديف لها. لديه فقط "عوينات" مثقّفين هو أبعد من أن ينتسب إليهم، حتى في أسوأ حالاتهم.

وفي الأثناء، كان الراحل عرفات، في تملّصه من ضيق الخيارات المبدئية الصارمة إلى البراغماتية الغائية، ينجو بنفسه من "التفاؤل التاريخي" الذي رأى أنه يعطلّه في جمود حسابات الحرب الباردة، ولكنه كان في كل مرّة يسقط في قرارة "المناورة التاريخية"، التي ستقتله في النهاية؛ إلا أنّه بالمقابل، بما يتعلّق بشخصه، كان يفهم ويقرّ برضا أن "المسألة" قد تتطلّب أن يقضي هو، ليترك مأثرة ما، ليواصل آخرون القضية، من بعده.. بينما ورثته انحازوا إلى "واقعية" الاعتراف بالهزيمة "النهائية" أمام عدوهم. وآمنوا، بفداحة، أن الاستسلام له ثمن مجزٍ لا يستحقّه سواهم، فتنافسوا عليه.

كان الرئيس عرفات في عاداته اللغوية يلجأ إلى التكرار بوظائفه كلها: التنبيه، والتأكيد، والتحذير. واقتبس عنه ورثته، كما هو متوقّع، بعض التكرار. لكن ذلك التكرار كان دائماً يأتي من باب تأكيد أنهم يعنون جديّاً التخلّي عما قالوا إنهم سيتخلّون عنه.

ولكن تبقى العادة اللغوية، التي يستمرئها ورثة الرئيس الراحل أكثر من سواها، هي التلاعب بالألفاظ، بحيث تؤدّي معنيين: واحداً لنشرة الأخبار التي يُنصت إليها الفلسطيني، والثانية مبطّنة ومشفّرة مخصّصة للمشاركين في الاجتماعات واللقاءات المغلقة.

ذلك نفسه يقود إلى أن "القضية" في عهد الرئيس عرفات الأكثر راحة، كانت أمميّة فيها عرب ولاتينيون وأوروبيون وحتى يابانيين، أما في عهد ورثته فضاقت حتى على كثير من الفلسطينيين. ولكن، بالمقابل، أصبح الإسرائيليون شركاء أصلاء فيها، لهم اعتبار وحصّة في موقع القرار.

في وقته، وعزّ إرادته، كان حول الرئيس عرفات جماعات وتيارات متناحرة ومتصارعة. وحول أبو مازن، اليوم، مثله مثل أي "تشيرمان"، مرشّحون محتملون. هم ورثة أفراد، كل واحد منهم يبحث عن فرصته وحظوظه لدى القوى التي ترعاه.

وإن كان الرئيس عرفات عنى في وقت، بالنسبة لـ"إسرائيل"، أن لا بدّ من التفاوض مع ممثّل شرعي ما للشعب الفلسطيني، فإن الدولة العبرية في عهد الـ"تشيرمان" أبو مازن وصلت إلى موقف ترى فيه أنها حرّة بإدارة الشعب الفلسطيني على الوجهة التي تريدها، بموازاة التفاوض مع "السلطة" الفلسطينية أو إهمالها بالاتهام؛ وهي اليوم ترى بينما تسبق الفلسطينيين في البحث عن وريث، أن الـ"تشيرمان" أبو مازن يجدر أن يكون آخر فلسطيني يجلس مع إسرائيليين على موائد سياسية دولية، سواء للتفاوض أو لطلب المعونات أو للتنسيق.

وفي نيّة "إسرائيل"، التي تشبه القدر بتحقّقها، أن يتحوّل القائد الفلسطيني المقبل إلى ما يشبه رئيس بلدية. وسيكون محظوظاً إن حظي بالجلوس على طاولة واحدة مع رئيس بلدية القدس أو "تل أبيب"؛ ولكن من المؤكد أن عليه أن يناصر الاستيطان أكثر من شارون نفسه، ليحظى بمقعد على تلك الطاولة. نعلم أن القائد الفلسطيني المقبل لن يهنأ بقيادته، فقيادته ستتطلّب تعميق الانقسام الفلسطيني (فتح - حماس)، إلى صراع داخل "فتح" نفسها.

من اللافت أن نوازع "إسرائيل" كانت تقودها إلى الاهتمام بالتخلّص من الرئيس عرفات، ولم تكن هذه النوازع مهتمة بمن يخلفه. بينما "إسرائيل" الآن مشغولة بمن يمكن أن يرث الـ"تشيرمان" أبو مازن، من دون أن تهتمّ بموعد رحيله!

في الواقع، ليست رئاسة أو وراثة عباس هي المهمة، هنا. الأهم هنا أن يجيب الفلسطينيون بعمومهم، وبإرادة نافذة، على سؤال "أوسلو". ذلك السؤال الذي أجاب عنه الإسرائيليون، وانتهوا منه، منذ اغتيال الرئيس عرفات.


* كاتب أردني/ عمّان

المساهمون