من النادر أن نعثر باللغة العربية على نصٍّ سردي يمكن مقارنته، شكلاً أو مضموناً، بنص حسين البرغوثي (1954 ـ 2002)، "سأكون بين اللوز" (بيت الشعر الفلسطيني، 2004). إذ ينفرد هذا النص بنبرته الرقيقة الملهَمة، وأيضاً بتلك الشفافية النادرة التي يتناول بها جوانب من هواجسه الشعرية والفلسفية والسياسية والروحية.
"سأكون بين اللوز" يستحضر الكتاب السيري الأول للبرغوثي، "الضوء الأزرق" (بيت الشعر الفلسطيني،2001)، الذي رصده لتجربته في الولايات المتحدة. ففي النصّين نستنج الأسلوب الكتابي نفسه ولجوء الكاتب إلى سيرته الذاتية كمادّة أدبية بامتياز. لكن ما ينفرد به نصّه الأخير هو إدراك البرغوثي لدى كتابته بدنو أجله نظراً إلى إصابته بمرض السرطان. إدراكٌ يتجلى على طول النص ويمنحه هالةً خاصة.
ومن هذا المنطلق نفهم رغبته في العودة داخل هذا النص إلى تلك المنطقة الجبلية الخلابة المحيطة بمدينة رام الله حيث وُلد وترعرع، بعد سنوات طويلة من الانقطاع عنها؛ وفي التنزّه معنا بين أشجار اللوز التي زرعها والده حول المنزل العائلي عام 1948، ودُفن الكاتب في حقلها وفقاً لمشيئته. نزهةٌ نتعرّف فيها عن قرب إلى تلك التلال الغالية على قلبه ونتابع تأمّلاته المؤثّرة "حول البدايات والنهايات".
وبإعادة إحيائه ذاكرة هذا المكان المحاصر اليوم بالمستوطنات الإسرائيلية، أراد البرغوثي أيضاً طرح سؤالٍ جوهري عمّا يمكن للمستوطن اليهودي القادم حديثاً من روسيا أو إستونيا أن يراه حين ينظر إلى هذه التلال التي يعود تاريخها إلى بداية الأزمنة؛ مؤكّداً عدم قدرة هذا الأخير على بلوغ هذا التاريخ الذي يعج بالقصص الحقيقية والأسطورية التي لا يعرفها إلا من عاش في هذه المنطقة جيلاً بعد جيل، ومبيّناً بالتالي خيانة هذا التاريخ المهدَّد اليوم بالإندثار.
ولإبعاد شبح هذا التهديد، ينطلق الكاتب في سرد بعضٍ من هذه القصص، كقصّة أخواله الذين قطنوا "الدير الجوّاني"، وعلى رأسهم قدّورة عازف الربابة؛ وقصة علي الراعي الذي كان يعزف على الناي بلا ناي، مستعيناً بفمه فقط، ويعرف رائحة أو طعم كل نبتة في المنطقة؛ وقصة الغولة التي كانت ترويها الأمهات لأطفالهن؛ وقصة القمر القادر، وفقاً لأسطورة تعود إلى ما قبل الإسلام، على تخصيب النساء اللواتي يتعرّضن لأشعّته، إضافة إلى قصص أخرى كثيرة أبطالها ثعالب وضباع وكائنات غير مرئية.
يحتل الدير"الجوّاني"حيّزاً مهماً داخل النص بسبب الأحداث المثيرة التي وقعت في أرجائه، ولكن أيضاً بسبب اسمه الذي يتمتع بجانب سحري وشعري. فرغم وقوع هذا الصرح على قمة أحد الجبال، أي في الخارج، يدل اسمه على موقع داخلي! ويفسّر الكاتب تردده مراراً على هذا المكان المسكون بالقصص، برغبته في تنشّق هواء أمكنة أخرى وأزمنة أخرى قادرة على فتح فضاء آخر داخله وعلى قيادته إلى"دير داخلي" يمنحه قوة البدايات لمواجهة "قسوة النهاية". فبالنسبة إليه، "المخيلة طاقة".
ولأن الطفل هو الكائن الذي يملك مخيّلةً واسعة وصافية، يركّز البرغوثي على ضرورة العودة إلى الطفل الذي فينا كي نسير على الأرض كأطفال أنقياء. ولتحقيق ذلك، استعان الكاتب بطفله الحاضر أيضاً بقوة داخل النص ("آثر") من خلال وصف دقيق لسلوكه وطريقة تفكيره وتعبيره؛ وفيه يتبيّن كيف أن كل طفل هو بطبيعته ساحر أيضاً، ينظر إلى العالم بعينين مفتونتين، ويشيّد بكلماته وبأسماء الأشياء ـ السحرية في نظره ـ قصصاً من طينة الأساطير.
لكن أهمية هذا النص لا تتوقف عند هذا الحد، فالبرغوثي يصف فيه أيضاً سير المريض وحيداً نحو الموت، داخل مجتمع يواجه يومياً عملية إبادة جماعية تُفقِد حتى مرض السرطان طابعه الطارئ. قبل أن يغوص مرّات عدّة، وبأسلوب مؤثر، داخل عوارض هذا المرض الخبيث التي تبدأ بقلق انتظار نتائج الفحوص الطبية الذي تتشبّث النفس إزاءها بالأمل، في قلب دوار الغرق المتربّص بها، وتنتهي بتفتّت جميع"الزوايا"الصلبة داخلنا؛ متوقفاً أيضاً عند عوارض المعالجة الكيماوية، كالترنّح وانعدام القدرة على السير كما في السابق، وكأن المسافات تزداد وتطول فجأةً، وبالتالي ضرورة الاستراحة عند كل خطوة، والغشاوة التي تلفّ البصر إلى حد لا يعود المريض يرى سوى ضباب متلألئ.
وفي هذا السياق، يشير حسين البرغوثي إلى أن المسألة التي شغلت باله أثناء مرضه لم تكن تتعلق بزمن موته أو بالطريقة التي سيموت بها، ولا بجدلية الأمل واليأس؛ بل بالوسيلة التي كان سيتمكّن فيها، انطلاقاً من ذاته المريضة، من تحويل نهايته إلى احتفالٍ عظيم وأخير ببداياته. ولعل أفضل شهادة على نجاحه في إنجاز هذه المهمة الأخيرة هو هذا النص السردي المؤثر الذي كتبه مباشرةً قبل رحيله.