زَعمُ فرزدق الفلسطيني

22 نوفمبر 2019
+ الخط -
ما أن لفظ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، آخر حروف بيانه الصحافي عن توقف واشنطن عن وصف المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية باللاشرعية، حتى تصدر الفرزدق الفلسطيني شاشات الفضائيات، شاهراً لسانه زاعماً، لا عازماً. لم يعد عدّاد أيامنا قادرا على إحصاء المرات التي نفخ فيه الفرزدق الفلسطيني عنترياته واعداً بالويل ومتوعداً بالثبور. للأسف، وصل العجز الفلسطيني إلى هذا المستوى من الضعف. لم تحرّك القيادة الفلسطينية ساكناً قبل إعلان الإدارة الأميركية نيتها الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي. وصارت هذه القيادة والسكون صنوين بعد إعلان الرئيس دونالد ترامب عن اعترافه رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل. ثم غَطَّت هذه القيادة في صمت القبور بينما إيفانكا ترامب وزوجها، جاريد كوشنر، يدشنان سفارة البيت الأبيض في القدس. وقبل ذلك، أزبدت القيادة الفلسطينية وأرعدت مطلع العام الجاري عندما أقنع سفير واشنطن في إسرائيل، ديفيد فريدمان، رئيسه بشطب تعبير "الأراضي المحتلة" من قاموس الدبلوماسية الأميركية. لم يعد في كيس الفرزدق الفلسطيني من شيء سوى الزعم، وقد قَصَّرت نبلَه وخلت قوسه من كل منزع. 
وفرزدق الفلسطيني لا يكتفي بالزعم الخاوي، بل يوغل أكثر في بيع الوهم لأهل بيته، زاعماً إن الإجراءات الأميركية المتتالية "تدمر عملية السلام". لا ندري عن أية عملية، وعن أي سلام يتحدث الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، أو أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، وغيرهما من زعِّيمة الشعب الفلسطيني. ألا يُدرك هؤلاء أن العملية ماتت في المهد، وأن السلام يُداس كل يوم تحت جنازير جرافات إسرائيل وبساطير جنودها. أو كأنهم لم يسمعوا بومبيو وهو ينعى العملية، ويغلق دروب السلام تاركاً الفلسطيني في العراء، يواجه قدره أمام صلف يميني إسرائيلي مستفحل.
صحيحٌ أن الساحة الدولية أغلقت أمام الفلسطيني بفعل انحياز الإدارة الأميركية السافر والسافل إلى جانب إسرائيل، وهيمنة يمين صهيوني على مراكز صناعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وتزامن ذلك مع تراجع الدور الأوروبي، الباهت أصلاً، وانصراف الروسي إلى أولويات أخرى جعلته أقرب للأجندة الإسرائيلية. وصحيحٌ أن ما جرى من خراب في الساحة العربية أصاب القضية الفلسطينية في مقتل، وقد باع عربٌ كثيرون قضيتهم الأولى، مقابل ضمان عروشهم. ولكن كل هذا العطب في الساحتين، الدولية والعربية، لا تكفي مواجهته بهامات من قصب وسيوف من خشب.
آن الأوان لأن تتوقف القيادات الفلسطينية عن اجترار مزاعم تثلمت، بينما تمضي إسرائيل عازمةً في بناء دولة المستوطنين على ما تبقى من الأرض الفلسطينية بعد إفراغها بالمصادرة والهدم والسطو المُغطى بقرارات محاكم "العدل" الإسرائيلية، ما رفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس من 260 ألف مستوطن في العام 1993 إلى أكثر من 700 ألف مستوطن في العام الحالي، يقطنون ويعملون في 150 مستوطنة و128 بؤرة استيطانية و94 قاعدة عسكرية، و25 منطقة صناعية وما يزيد عن 200 بؤرة استيطانية غير مرخصة، بالإضافة إلى 15 مستوطنة في مدينة القدس المحتلة.
آن الأوان لهذه القيادة الفلسطينية أن تصحو من غفوتها وغفلتها. لم يحصد الفلسطيني من مزاعم هذه القيادة إلا علقم الانقسام، ومرارة الصراع على فتات السلطة، بينما قطفت إسرائيل ثمار التطبيع العربي المجاني. حان الوقت للتوقف عن اجترار المزاعم، وإجراء مراجعة فلسطينية شاملة تُحرّر الشعب من معتقل أوسلو، وتوقف جرافات سياسية واستيطانية تسوي الحقوق الفلسطينية بالأرض. حان الوقت لاستراتيجية فلسطينية تبدأ بمصارحة الشعب الفلسطيني بما انتهت إليه سنوات أوسلو العجاف. ثم المباشرة الفورية في المصالحة وإنهاء الانقسام، فمن غير المعقول أو المقبول مواجهة هذه الأمواج العالية، والعواصف العاتية من التآمر على الفلسطيني وقضيته بنبل قصّر وقوس مكسورة. على الفرزدق الفلسطيني لجم زعم لا يزيد مربعاً الإسرائيلي إلا طول سلامة.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.