زوبعة زرقاء في الرأس

14 سبتمبر 2019
إبراهيم جوابرة/ فلسطين
+ الخط -

الفيسبوك طيّب للغاية، وحنونٌ لدرجة أنه يُذكّرك بعيد ميلادك وأعياد ميلاد أصدقائك وذكريات زرقاء أخرى.

هو أحسن بكثير من الأحزاب التي لا تفتح مقرّاتها ولا تُشغّل أساطين وعودها إلّا في فترات الانتخابات.

أحسن من النقابات التي لا تفكّر في عمّالها إلّا عند اقتراب الأوّل من أيار/ مايو من كلّ عام.

ومن الرجل العربي الذي لا يتذكّر زوجته إلّا عندما يثمل.

ومن وزارة الثقافة التي لا تتذكّر كتّابها وشعراءها إلّا عندما يفوزون بجائزةٍ في بلادٍ بعيدة.

ومن الحاكم العربي الذي لا يتذكّر جرائمه إلّا عندما يصير قصره محاصراً برشّاشات وبنادق الثوّار.

وأيضاً، أحسن منّي أنا الذي لا أتذكّركم إلّا عندما تطلّون برؤوسكم وتنقرون تحت ما أكتب وتختفون مثل فئران وديعةٍ.


■ ■ ■

تسقط منشورات فيسبوك عمودياً نحو الأسفل. تُحدث دويّاً ثم تستقر في عمق البئر المهجورة مثل حجارة الرعاة، والتي لا نراها من فرط تساقط أحجار كثيرة. أمّا أنه يحتفظ بأغراضنا الشخصية كاملةً ويُذكّرنا بوجودها في مكان آمن من باب الردّ على المشكّكين من أمثالي، فتلك هي خدعته الكبيرة التي لا تختلف عن خدعة معلّمنا في الابتدائي، والذي كان يضع حبّات الحلوى فوق المكتب؛ حيث كلّما تفوّق أحدنا في الإجابة رفع إحداها من ذيلها عالياً ثم أعادها إلى مكانها. وهكذا ظلّت حبّات الحلوى نفسها تظهر فوق المكتب في أوّل الحصة ثم تختفي في الخزانة ونحن نهمّ بالخروج، حتّى انكشف غطاؤها في شهر أيار، وصارت مجرّد أحجار صفراء. والغريب أن لا أحد منّ المتفوّقين تجرّأ يوماً وطالب بجائزته.

إنه الدرس الأول في الترويض على الصمت والخنوع الذي استوعبناه جيّداً على مقاعد المدرسة. وحين كبرنا، وجدنا أنفسنا نتحرّك بكمّامة على الفم مع اختلاف بسيط في طول الحبل الذي يشدّ هذه الكمّامة إلى الأذنين.

أستبعد أن يفكّر فيسبوك بهذا المنطق، لكن مشيته العجلى تبعث على التوجّس وعدم الاطمئنان.


■ ■ ■


صارت صفحتي على فيسبوك مهجورةً كطلل في قصيدة عمودية، ومتروكة كمنشفة طبيّة في فم بالوعة.

فكرّت هذا الصبّاح أن أشحذ خيالي - ليس هذا ما ينقصني - وأن أقتل أحد أفراد عائلتي، إحدى خالاتي مثلاً أو عمّي الوحيد. وربّما تشجعتُ واستقدمتُ أبي إلى الحياة بإشارة شرطي مرور قبل أن أعيده إلى المقبرة متبوعاً بمشيّعين وأطفال يمصّون الحلوى على ظهر أمّهاتهم.

أريد أن أستنفر همم كسالى وأستميل قلوبهم إليّ، أن أتمدّد على كرسيّ وأضحك، أن أرى ظلّي مشطوراً في المرآة مثل صدرٍ وعجزٍ، وبوجهَين مثل الدرهم المغربي: وجه الملك، ووجه شعار المملكة.


■ ■ ■

أصبح الشعراء متوجّسين من تنزيل قصائدهم كاملةً على صفحاتهم في فيسبوك، وطفقوا يتعاملون معها كما لو أنّها جثث آدمية، وكما لو أنّهم هم القتلة، فيُجهدون أنفسهم في إخفاء معالم الجريمة عندما يرمون الرأس في هذه النقطة الكيلومترية، والأطراف في هذا المنعرج والرجلين في تلك الزاوية المظلمة، قبل أن تعصف بهم مشاعر تأنيب الضمير وجلد الذات.

استهلكتُ مراراً مثل هذه المشاعر الفادحة وأنا أتصرّف مع قصائدي كما لو أنّني أدخل للصلاة في مسجد حيّ شعبي مكتظّ باللصوص والبؤساء المستعدّين لسرقة أيّ شيء كي يواصلوا الحياة، حيث أضع فردة الحذاء في رفٍّ والفردة الأخرى في رفٍّ آخر بعيداً. وكي تجمع أنتَ بين الفردة وأختها دون أن تخطئ في مقاس الحذاء، فهذا يتطلّب منك انتباهاً دقيقاً وخيالاً زائداً، كأن تتعقّبني في مثل هذه الساعة عندما أتجرّد من ملابسي، وأركب درّاجة هوائية وأنطلق.


■ ■ ■


يطلع علينا مصعد فيسبوك بأشياء جميلة على مدار الوقت، ومطوّلة أحياناً، لكن ما يكاد هذا الصاعد الجميل يرتّب أنفاسه المتعبة، ويستوي برجليه الطويلتين على الكرسي الأزرق ويسوّي قبعته، إن كانت لديه قبعة طبعاً، حتى يصير الرجل الممدّد رائعاً ومذهلاً، وربما خطيراً على جهات كثيرة، وفي لمح البصر وفي أقل من دقيقة.

إنّهم الكذابون الذين نحتاجهم كي نواصل الصمود ونبتسم، على الأقل هناك من يهتمّ بنا ويرسل لنا تلويحة حبّ ولو زوراً وبهتاناً.


■ ■ ■


فيسبوك إدمان خطير، مثل القهوة والتدخين، مثل استدارة لا إرادية في الزحام، والتلصُّص من شقوق النوافذ... مثل الحقد الغريزي والندم الفظيع.

إنّه سبب في الكثير من الأعطال الصغيرة: تدفُّق حليبٍ فوق فرن غاز أو احتراق عشاءٍ مثلاً، التأخر في النوم والوصول إلى العمل بزوبعة زرقاء في الرأس، العزوف التدريجي عن القراءة بالنسبة إلى الكتّاب والشعراء، والكسل الوجودي بالنسبة إلى الآخرين.

كثيرون يخبروننا بإغلاق صفحاتهم والرغبة في الاختلاء بأنفسهم لأيام أو لأشهر، لكنهم يعودون مهرولين بعد مرور ساعات معدودة. نتفهّم إدمانهم ونُفسح لهم ليجلسوا من دون أن نسألهم ومن دون أن يشكروا، كالسكّير وصاحب الحانة.


■ ■ ■


من محاسن فيسبوك أنه لا توجد لائحة صداقة نهائية. ولا أصدقاء دائمون أو خصوم تاريخيّون. دائماً هناك من يدخل وهناك من يخرج كما لو أن الأمر يتعلّق بديانة سماوية أو دورة مياه واحدة في محطّة حافلات رئيسية. ويحدث أن يلتقي الاثنان في منتصف الطريق دون أن يتبادلا الكلام أو التحية من باب الاعتزاز بالانتماء المشترك إلى شجرة الفيسبوك الكبيرة على الأقل. الذي خرج بارتياب محيّر وهيئة مشوّشة، وبحقيبة صغيرة في اليد جيوبها مفتوحة، والذي دخل بإيمان قوي وسيرة ذاتية مطوّلة، وأحياناً ببيانات شخصية ناقصة.

يخرج فلان ليدخل علّان. ومع ذلك علينا ألّا نهتم كثيراً، وأن نتعامل عكس الشاعر أمل دنقل ونُصالح الاثنين؛ الذي خرج والذي دخل، وأن نرفع على الدوام شارة النضال ضد قضية واضحة اسمها قتل الوقت.


■ ■ ■

كانت لي صديقة في فيسبوك، تحكي لي عن مدنٍ ومحطّات قطارات، عن بحارٍ ووديانٍ، عن مقاهٍ ومطاعم، وعن متاجر ابتاعت منها هدايا وحلويات.

أشاركها السعادة قدر المستطاع. وأخاف عليها في داخلي من حوادث السير، من التقدُّم خطوةً والسقوط في عمق البحر، من التسمُّم الغذائي، ومن اللصوص في الزحام.

عرفتُ في ما بعد أنّ صديقتي مشلولة، تدفع عربةً في اتجاه شرفة البيت لتطل من شاهقٍ على الحياة، فتحكي. اختفت صديقتي فجأة، فاختفت معها مدنٌ كثيرة ووديانٌ وأشجار. اختفت الشرفة أيضاً، والأشعار الجميلة المتساقطة تباعاً من على العربة.


■ ■ ■


أشخاصٌ كثيرون يظهرون في رأس صفحتي بشكل هستيري كلّما فتحتُ مظلّتي في هذه المجرّة الزرقاء. هم ليسوا أصدقائي، لكن لدينا أصدقاء مشتركين يتجاوزون المئة أحياناً، وهو ما يحفّز فيسبوك على اقتراح صداقة بيننا.

أخمّن أن الأمر يحصل لديهم أيضاً، غير أنهم لا يبادرون. وأنا أيضاً لا أفعل بسبب غروري الزائد ومزاجي العاصف، بل قرّرت مع مرور الوقت ألّا أدعو مع الله أحداً لتستمر إطلالة فئران كثيرة من العلالي، ويستمر معها حضور القط الخبيث في داخلي عندما أمسحهم قبل أن يعاودوا الظهور كجزء من إصرار فيسبوك.

القط الأشقر الذي يحبّ ولا يُجهر.


■ ■ ■


يتبوّل كثيرون على حائطي في فيسبوك، فأصمت. وهذا يعني أنّني تلميذ مهذَّب وأستحق جائزة حُسن السلوك في آخر السنة.


* كاتب من المغرب

المساهمون