زهر اللوز الغائب عن حياتنا
قابلته في الشهر الخامس من عام 2011، كنت في زيارة سريعة إلى باريس، هي زيارتي الأولى لها. كانت الثورة السورية، ذلك الوقت، في قمة تألقها، وكان السوريون في كل العالم ينظمون الاعتصامات دعماً للثورة، واحتجاجاً على العنف الاستثنائي الذي قابل به النظام الثائرين والثائرات، في مختلف المدن السورية. في باريس، ويوم وصولي، ذهبت للمشاركة في اعتصام السوريين في ساحة (شاتليه)، حيث قابلت مثقفين وناشطين سوريين كثيرين، منهم من كنت أعرفه من سورية، ومنهم من عرفته افتراضيا عبر صفحات "فيسبوك"، منبرنا شبه الوحيد الذي كنا نعلن فيه موقفنا مع الثورة، نحن السوريين في الداخل، ومنهم من عرفته يومها فقط. في نهاية الاعتصام، ذهبت، مع بعض الأصدقاء، إلى مقهى قريب من المكان، وجلسنا مع مجموعة كبيرة كانت مشاركة في الاعتصام، عرفت عن نفسي للجالسين، فالتفت إلي هو قائلاً، بابتسامة معاتبة لا أنساها طيلة حياتي: لماذا لا تقبلين طلب صداقتي على "فيسبوك"، أنا اسمي بشير هلال؟ ثم أكملنا الحديث، ومن يومها، تطورت بيننا صداقة، كنت أشعر بها شبه يومية، حتى وأنا في سورية، وحتى بعد خروجي منها، تلك الصداقة التي لم تتعد خمس لقاءات مباشرة، وأربع سنوات يومية على صفحات "فيسبوك"، جعلتني أشعر، حين عرفت خبر مرضه ورحيله السريع والمفاجئ، كما لو أنني أفقد فرداً من أفراد عائلتي.
طوال أربع سنوات، كان بشير هلال، المثقف اللبناني النبيل والمناضل اليساري الديمقراطي، واحداً من السوريين الذين آمنوا بحق سورية بحاضر أفضل، وبمستقبل يضمن كرامة أبنائها، ويكفل حقهم في الحرية والعدالة والعيش الكريم. كانت الثورة السورية له بمثابة استحقاق الكرامة، كما ينبغي أن تكون لكل مثقف عربي. وكان للانتماء السوري، أيضاً، الاستحقاق نفسه عنده. من تابع صفحته على "فيسبوك" خلال الأربع سنوات الماضية، ومن تابع مقالاته وحواراته في الصحف العربية، كان ليقسم أن هذا المثقف سوري الانتماء، بقدر ما هو سوري الهوى. صوابية رؤيته ووضوحها، وتحليله النقدي الحالة السورية بكل مآزقها، وإيمانه الدائم بانتصار الثورة السورية على الطغيان، القديم منه أو المتشكل حديثاً، جعل منه سورياً وطنياً بما يتفوق كثيراً على وطنية سوريين عديدين مدعين، يتحدث الأصدقاء السوريون في باريس، عن وجوده في كل الاعتصامات والمناسبات الثقافية والسياسية الخاصة بسورية. لم يتخلف يوماً عن أي حدث كهذا، في وقت كان يغيب فيه مثقفون سوريون قصدوا باريس بلد لجوء، هرباً من النظام. كان الأمر بالنسبة لبشير هلال، كما أخبرني يوماً في حوار فيسبوكي، قضية العدالة والديمقراطية، وقضية الوقوف ضد الاستبداد، قضية الحرية بوصفها قيمة أخلاقية وإنسانية وثقافية، قبل أن تكون موقفاً سياسياً. بالنسبة له، كانت الثورة السورية، بكل ما فيها، أبهى تجليات هذه القيمة. لهذا، كان من ناقدي أخطائها الدائمين، لكنه كان نقد المحب والحريص والخائف عليها، والحالم بانتصار أهدافها، والآسف على مآلاتها، كل هذا الحب الذي عبر عنه، ببساطة وعمق ونبل استثنائي، لمسه أصدقاؤه السوريون، الافتراضيون والواقعيون، الأصدقاء الذين شعروا، كما لو أن ثورتهم فقدت ضلعاً أساسياً من أضلاعها القليلة المتبقية. لهذا، كان حزنهم عليه حقيقياً، ولهذا، أيضاً، كانت صورته، بشعره الأبيض ووجهه الودود، تزين جدرانهم الافتراضية. ولعلها أول مرة ربما منذ زمن، يجتمع فيها سوريو الثورة، المشغولون بكل أنواع الخلاف، على محبة أحد، وعلى أسف فقدانه، بشير هلال، المثقف اللبناني النبيل الذي استبدل صورة بروفايله الشخصي، بصورة لأطفال سوريين لاجئين يرفعون إشارة النصر. كان يتمنى لو تمتد به الحياة، لكي يرى زهر اللوز في سورية الحرة، لكنه غاب، كما غاب زهر اللوز عن حياتنا.