زمن "المسكّفين"

05 يوليو 2016
+ الخط -
أتمنى لو يعود بي الزمن إلى ذلك الكهل الأميّ الساخر، الذي كان يحلو له أن يهزأ منا نحن طلاب المدرسة الثانوية، فينعتنا بـ"المسكّفين" (يقصد المثقفين)، كلما مررنا قربه، وكأن الثقافة كانت بمثابة "السبّة".
صحيح أن ذلك الكهل كان يعتبر الثقافة مصطلحاً فضفاضاً، يشمل كل من يحمل قلماً ودفتراً، غير أن هذا الفهم لم يكن يقتصر عليه وحده، بل كان ينسحب على جيل الآباء كله، في ذلك الزمن.
عموماً، ما ذكّرني بهذا الكهل، الآن، بؤس ما آلت إليه أوضاع "المسكّفين"، في الزمن الراهن، وبالمصطلح الفضفاض نفسه، فأنا "الكهل المعاصر" أسمح لنفسي أن أضم إلى فئة المثقفين أرباب الصحافة والفن والأحزاب والمعارضة بسائر أطيافها. وإن حدث وعاد ذلك الزمن، سأقول للكهل إيّاه، بأنني لن أفخر يوماً بأنني عشت زمن "المسكّفين" العرب في القرن الحادي والعشرين، بل ربما أعتبر هذا العيش مدعاةً لعارٍ لن يمحوه الزمن. وسأقول له إن الفضل الأكبر في فشل ثورات الربيع العربي ليس قمع الأنظمة، بقدر ما كان قمع المثقفين أنفسهم واستبدادهم على هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
فلئن، يعقد اتحاد الصحفيين العرب، مثلاً، مؤتمراته السنوية في القاهرة، حيث القمع الأدمى للربيع العربي، وثوراته، ثم يوزّع هذا الاتحاد صكوك غفرانٍ لنظامٍ لم يبلغ سطوته فراعنة الزمن القديم، فهذا يشير إلى مبلغ الانحطاط الذي وصل إليه "المروّجون"، وليس "الصحفيين"، لأنظمة الاستبداد.
وأن "يطبخ" أولئك المؤتمرون بيانات فرز للمناطق الأشد خطراً على الصحفيين العرب، فيذكرون سورية والعراق، ثم يتغافلون عمداً عن جهنم الصحفيين التي يقيمون وسط ضرامها، فهذا يمثل ذروة الاستخفاف بعقل القارئ العربي، وبرفات أقرانهم من الصحفيين المصريين الذين قضوا في مذابح عبد الفتاح السيسي، أو المدفونين في زنازنه، بتهم لا تصل، في أحيانٍ كثيرة، حدّ المعارضة للنظام، بل ربما لانتقاد بسيط يصدر من أحدهم.
وأن يصرّ هذا الاتحاد نفسه على مواصلة عقد مؤتمراته في "مزرعة السيسي"، على الرغم من أن نقابة الصحافيين المصريين نفسها لم تسلم من همجية نظام السيسي وأدواته القمعية، بعد تعرّضها لاقتحامات متكررة، في سابقةٍ لم يقدم عليها حتى أستاذ السيسي، حسني مبارك، فذلك يعني، أيضاً، أن علينا أن ننعى الصحافة العربية العمياء، برموزها ونقاباتها، ما دامت تتغافل عن أحداثٍ لا تحتاج إلى استقصاء أو بحث صحفي، بل لمجرد رصدٍ وتوثيقٍ يستطيعه أي موظف أرشيف يطارد ذباب المكاتب.
هذا على صعيد الصحفيين، أما عن "الممثلين" المصريين مروجي استبداد السيسي، فذلك مما لا يتسع له قاموس الردح الجديد، الذي تضع أسسه حالياً فيفي عبده وإلهام شاهين.
أما عن فئات "المعارضين" من الحزبيين وغيرهم، فهؤلاء برهنوا أن المعارضة العربية لم تكن غير كذبةٍ كبرى، روّجها أدعياء وأصحاب مصالح، بعد أن ثبت أن معارضتهم الأنظمة الاستبدادية تشبه أولئك الذين "يعبدون الله على حرف"، ثم سرعان ما ينقلبون على مؤخراتهم، عند أدنى اختبارٍ حقيقي مع العصا، أو الجزرة، فيصبحون جزءاً من الأنظمة نفسها، بل وأشد منها استبداداً، لأن إثبات "براءتهم"، وتبييض صفحاتهم أمام النظم الحاكمة، يقتضيان مضاعفة القمع والنفاق، على غرار مثقفٍ عربي طالب حكومته، أخيراً، باستخدام القبضة الحديدية، وإعلان الأحكام العرفية، رداً على حادثة "زعرنة" اقترفها لصوص، وضخّمها بعضهم لمآرب في أنفسهم، ويشبه حال مثقفنا هذا حال من يقترح إضرام النار في حقلٍ من القمح، للتخلص من صرصور متسلل.
بكل هذه المفارقات التهريجية لمثقفي عصرنا الراهن، وصحفييه وفنانيه، أتوقع أن أجد نفسي، ذات يوم قريب، كهلاً يقتعد الأرصفة، ساخراً من أي مثقفٍ يعبر أمامه، وأهتف كما كان يهتف سلفي الراحل: "مسكّفون".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.