زكريا محمد.. الشاعر كسلّة توت

15 سبتمبر 2014
+ الخط -
في أولى قصائد ديوان "كشتبان" (دار الناشر) لزكريا محمد، يقترح النص أن تكون البداية من "الجناح الملغى للحجر". يمكن لهذه العبارة أن تكون مفتاحاً لأبواب النصوص كلها التي يدور عالمها الشعري بين اثنين: الحجر والطائر. فالأصل في حجر محمد أن يطير، وهذا الانئسار ما هو إلا مجرد حادثة.

تتأمل المجموعة في الخفة والثقل، في الحي والميت. دائماً هناك حي وميت في القصيدة الواحدة، مثلما هناك طيران ملغى من حياة الحجر :"لكن ثمة شيئاً ناقصاً يا إلهي، لا أجده تحت النخلة، ولا عند رأس النبع، ولست أدري اسمه حتى. وأنا مريض من دونه مرضاً لا يداوى".

في مثل هذه العلاقة الندية والمؤلمة بين المفقود والموجود، بين أن تكون طائراً وصنماً، تشتبك المجموعة مع موجودات الطبيعة. تقابل بينها والإنسان. فكل أشياء العالم في موضع مقارنة مع المرء الذي هو دائماً أقل شأناً منها وأكثر هشاشة. "الماء فكرة القيعان، والنار فكرة التيجان، أما أنا فلا فكرة لي". ولنر هذه العبارة: "النهر يتدفق بلا متعة. كأنه يمضي إلى حتفه. أما أنا فأجري مستمتعاً بمياهي". يقول في موضع آخر: "أنا النهر".

سنصادف النهر مرات كثيرة في المجموعة، فهو النهر الذي سيختفي ولن يأخذ معه شيئاً؛ سيموت كأي حي آخر. وهو المكان الذي يُجلَس بمحاذاته ويُرمى فيه الحب والسفن الورقية ويؤكل معه الدراق. وهو كذلك نهر يذكرنا بالنهر في أغاني "الغاسبل"، حيث الجميع يريده محطة أخيرة للخلاص: "ثم أن أسبح في النهر هائناً".

 اللافت أن الشعر كله يحدث في الخارج، إذ لا وجود لقصيدة داخل البيت أو في غرفة. المسرح الذي تؤسَّس عليه "سنوغرافيا" القصيدة موجود على الجبل أو على ضفة أو تحت شجرة، مع الشحرور والغراب والبلبل. من هنا يمكن تصور خيارات اللغة الطلقة للمجموعة برمتها.

هذا القرار بالتحيز الشعري لـ"الخارج" يناسب الهدف من هذه الكتابة. هذه الكتابة تستطلع الموت، وتجسّر معه وتعيش حالة فيها لحظات من الغضب وأخرى من المسالمة أو العجز وأحياناً تعرض المصادقة. لم يترك محمد وسيلة إلا وفكر في الموت من خلالها: "لكي نحتمل الموت سأجعل له ظلالاً كظل شجرة"، "تعال يا عصفور الموت، خبزتك هنا في كفي"، "حصاة الموت تحت لساني"، "الموت أمّنا البكاءة"، "الموت ذنب كبير. ذنب لا يغتفر أبداً"، أو "الموت زبالة الوعي".

لا تخلو المجموعة أيضاً من مشاهد تبدو كأنها مقتطعة من ميثولوجيا أو كأنها جزء من نبوءة أو مخطوطة قديمة، كأن يقول: "ستصب الخمر، وسوف تكون وفيرة، ويقطع لكل واحد أكحله، ويشرب خمرته في كشتبانه الكبير، لكي يختلط الخمر بالدم، والدم بالخمر، ويدفقا معاً من الأكحل المقطوع. ولن يفترّ أحد عن سنّ".

وإن كان صاحب "حجر البهت" بدأ ديوانه بحالة الحجر، ومرّ بأن يقترح على نفسه أن يكون "باذنجانة"، "سلة توت"، "نملة" أو "نجمة"؛ إلا أنه يرفض أن يكون شجرة أو صخرة، يفاجئنا بخوفه من الإقامة في الطبيعة كواحد من مكوناتها. ذلك أن الريح ستجرحه والشمس ستتلف ذاكرته والماء سيقطع أصابعه. بل إن الشاعر ينهي هذه الخيارات التي يعرضها على نفسه بمفاجأة "فكرتي أن أكون قطة شريدة فوق حاوية زبالة: ذيلها لعبتها الوحيدة/ وعينها الحذرة هي النجمة الوحيدة في سمائها".


مقدمة وخاتمة

لا يحدث كثيراً أن يضع شاعر مقدمة لديوانه، لكن زكريا محمد يريد أن يقول لقرائه شيئاً قبل أن يبدأوا، وهو أنه تغير. لقد اختلفت مواضيعه وإيقاعاته، وكذلك قاموسه الشعري، ولم يعد يكترث بالتصنيفات: "حريتي تتسع، ومتعتي تشتدّ".

ويطرح محمد سؤالاً مهماً حول الكتابة على الفيسبوك، إذ أن معظم نصوص "كشتبان" كتبت مباشرة على حساب الشاعر الذي يدعونا للمقارنة بينها وبين غيرها. سؤال يحيلنا بالضرورة إلى القراءة بالوسيلة نفسها، واختلاف شرط التلقي كله، بل والمتلقي نفسه. فقارئ الفيسبوك ليس بالضرورة قارئ الكتاب.

ثم يعود صاحب "أشغال يدوية" ليتوجه للقارئ في خاتمة الديوان في مقال "الشعر والبندورة". يستعيد الحالات الشعرية لمجموعاته الخمس التي صدرت سابقاً، ويتناول علاقته بالشعر وأسئلته الأولى عن جدوى هذه الكتابة.

وإن كانت المجموعة الأحدث حملت عنوان "كشتبان"، فمن المفارقة أن أول دواوين الشاعر الذي صدر عام 1981 كان عنوانه "قصائد أخيرة"، ليتحوّل محمد من الحائر أمام مشروع الكتابة إلى مالك الكشتبان والمنهمك بالحرفة التي بين يديه.

يمر الشاعر على خياراته وأسئلته في دواوينة التالية: "أشغال يدوية" (1990)، "الجواد يجتاز أسكدار" (1994)، "ضربة شمس" (2003)، وأخيراً "حجر البهت" (2008)، ليخلص بعد كل تلك المشادات النفسية والعقلية مع فكرة الكتابة إلى هذه الحتمية: "علاقتي مع الشعر علاقة لا ينهيها سوى الموت". وفي حالة "كشتبان" زكريا محمد، يبدو الشعر أرضاً لاستكشاف الموت.

دلالات
المساهمون