يقوم النظام الغذائي في شمال الجزائر على العجائن بينما تستند الصحراء إلى اللحوم، إلا أنّ علاقة الجزائري بالخضروات والفواكه تبقى حميمة ويترجمها المثل الشعبي "دار بلا خضرة منها للحفرة"، ما معناه أنّ البيت الذي يخلو من الخضروات أشبه بالقبر.
في العقود التي سبقت الاستقلال الوطني في عام 1962، وتلك التي تلته حتى نهاية تسعينيات القرن العشرين، كان الريفي الجزائري يُخصّص جزءاً من الأرض التي يقيم عليها بيته، لتكون مزرعة للخضروات والفواكه. وتهتمّ النساء بها عادة، لا سيّما كبيرات السنّ منهنّ. بالتالي تكتفي الأسر مما تزرعه، في ما يتعلق بغذائها، ولا تشتري من السّوق إلا المواد التي لا تستطيع إعدادها بنفسها، من قبيل البنّ والسكّر والصابون.
الخالة مسعودة البالغة من العمر 78 عاماً، تعيش في بلدة الرابطة الواقعة على بعد 200 كيلومتر من شرق الجزائر العاصمة. تخبر "العربي الجديد" عن تلك الأعوام التي لم تكن تغادر "البْحَيرة" إلا للنوم. والبْحَيرة هو الاسم الشعبي الذي يُطلق على المزارع الصغيرة. تقول: "كنت أقصدها في الصباح ولا أغادرها إلّا عند المغرب. وفيها اعتدت تناول طعامي وتربية أحفادي، وفي حال لم يكن هناك ما يستدعي بقائي فيها، فإنّني كنت ألازمها لأحرسها من الطيور ومن الأطفال الأشقياء. وفي موازاة ذلك، كنت أقوم بأشغال موازية، من قبيل حياكة الصوف وصناعة أواني الخزف وإعداد التوابل".
يُذكر أنّ المارّين في الجوار، كانوا يشمّون روائحها التي تعبق في المكان. تضيف الخالة مسعودة أنّ "النساء الريفيّات لم يكنّ يتفاخرنَ من خلال استعراض حليّهنّ وألبستهنّ، بل من خلال ما أعددنَه من مؤونة من خيرات البْحَيرة التي اعتنينَ فيها بأنفسهنّ. هنّ فعلنَ ذلك أحياناً بينما كنّ يحملنَ أطفالهنّ على ظهورهنّ". وتلفت إلى أنّ "أهل الريف في الماضي كانوا ينظرون باحتقار إلى كلّ من يحضر خضرواته وفواكهه وشاة عيد الأضحى من السوق. بالنسبة إليهم، هو إمّا كسول، وإمّا أنّه لا يملك سلطة على أسرته، لذا لم يتمكّن من جعلها تهتمّ بشؤون البْحَيرة، وإمّا مبذّر يهدر ماله على حاجيات يستطيع توفيرها بنفسه من خلال العناية بأرضه". وتشرح الخالة مسعودة: "كنّا نربط الحفاظ على العِرض بخدمة الأرض".
انقلاب على الأرض
في أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدأ شغف الريفيين بالأرض يخبو بسبب الخوف الذي تسبّبت به الجماعات الإرهابيّة التي كانت ترتكب مجازر في حقّ سكّان القرى لإرغامهم على النزوح إلى المدن فتخلو لها الساحة. ومن بقي من هؤلاء الريفيين في أرضه، فقد ترك الزراعة حتّى لا تستفيد منها الجماعات المسلّحة التي كانت تسطو على الممتلكات.
اليوم، ما زال كثيرون يهملون أرضهم، ويتحدّث طالب الاقتصاد مهدي حاجّي في السياق عن سبب آخر لاستمرار الجزائريّ المقيم في الريف بمقاطعة الأرض بعد استتباب الأمن وتراجع الخوف والإرهاب في مطلع القرن الواحد والعشرين، هو "سياسة الحكومة الخاطئة في تسيير شؤون الشأن العام". يقول حاجّي لـ"العربي الجديد" إنّ "عودة الأمن إلى الجزائر، خصوصاً في الأرياف، تزامنت مع ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالميّة. وبدلاً من أن تعمل الحكومة على إنشاء مشاريع مدرّة للثروات، في مجال الفلاحة (الزراعة) خصوصاً، فإنّها راحت تدعم السلع الاستهلاكيّة، وتجعل المواطن يظنّ أنّه يستطيع العيش من غير أن يعمل، الأمر الذي كرّس لديه ثقافة الاتكال على الآخرين".
ويشير حاجّي إلى قرارات حكومية يصفها بـ"الخاطئة"، منها "توجيه القروض الخاصة بالدعم الفلاحي والتي بلغت 60 مليار دولار أميركي في خلال 15 عاماً، إلى الفلّاحين الكبار، فعمد هؤلاء إلى إغراق السوق بسلعهم. وهذا ما دفع سكّان الأرياف إلى الاستغناء عن أراضيهم أو بناء مساكن من الإسمنت فوقها، وذلك في إطار دعم السكن الريفيّ من قبل الحكومة. أمّا آخرون فعمدوا إلى تشجيرها بالزيتون، خصوصاً، في إطار مشاريع الدعم الفلاحي الموجّهة إلى السكان، الأمر الذي دفع في اتجاه أحاديّة الإنتاج".
عودة فزّاعة الطيور
ويوضح حاجّي أنّه "مع تراجع أسعار النفط قبل أربعة أعوام واعتماد الحكومة سياسة تقشّف قاسية من دون تحضير البيئة الاجتماعيّة لها بعدما كانت معتادة على البحبوحة ويسر العيش، وجد الريفيون أنفسهم أمام عجز واضح عن شراء حاجياتهم من الخضروات والفواكه والحبوب من الأسواق، فتراجع مستواهم المعيشي وشرعوا في التخلّي عن سلوكيات استهلاكيّة ورثوها عن فترة البحبوحة".
في السياق، يخبر العمّ مبروك أنّه وجد نفسه فجأةً أمام غلاء فاحش وشحّ في الموارد، "فأنا لا أملك مدخولاً باستثناء المنحة الشهريّة للشيخوخة المقدّرة بثلاثة آلاف دينار (نحو 25 دولاراً أميركياً) في الشهر. بالتالي لم يكن أمامي إلّا التصالح مع أرضي ورعايتها حتى تمنحني خيراتها، وهذا ما حصل". ويضيف لـ"العربي الجديد": "لم أعد أشتري من السوق أيّ نوع من الخضروات، بل إنّني صرت أبيع ما يفيض عن حاجة أسرتي"
يُذكر أنّ بْحَيرة العمّ مبروك يزخر بالفلفل والطماطم والبصل واللفت والجزر والبطاطس والثوم والسلق والشمندر والفول. ويبدو متحمساً وهو يقول: "كلّما شعرت بالتعب قلت لنفسي إنّ التعب بالعمل خير من التعب بالبطالة"، مضيفاً أنّ "خضروات مجانية وطازجة يمكن الحصول عليها في أيّ وقت خير من خضروات غذّتها الأسمدة الكيميائيّة، بالإضافة إلى غلاء أسعارها".
تجدر الإشارة إلى أنّ عودة الجزائريين إلى رعاية أرضهم، بمن فيهم الشّباب، ترافقت مع استرجاع لفزّاعات القماش التي من شأنها أن توهم الحيوانات والطيور من بعيد بأنّها من البشر. في سياق متصل، صارت أسواق الخضروات في معظم المدن تعرض خضروات غير معالجة بمبيدات كيميائية تسمّى "خضرة بلاد"، أي خضروات بلديّة، علماً أنّ أسعارها تساوي عادة ضعفَي أسعار الأخرى.