زائر من الجنّة... في رحاب الوطن!

12 يوليو 2018
+ الخط -
"أخي: هل تعرف الحرّاقات؟؟ عفواً لا أعرفها .. أي الحين تعرفها؛ دخان أسود، ووجوه سودة وعيشة سودة؛ لتعرف أنك جاي من الجنة!".. كانت من أقسى العبارات التي واجهتني في زيارتي للداخل بعد سنوات عن الانقطاع عن الشمال السوري الذي كان المتنفَّس الوحيد لنا بعد تجربة التشرد من حمص وريفها.

اليوم ندخل سورية بجواز جديد؛ حيث إنه لا يمكننا الدخول بالجواز السوري وحده، فلما سعدنا بجواز عليه الهلال والنجمة دخلناها بكل احترام! فكانت هذه النكتة الأولى.

لم تكن الزيارة الأولى للداخل السوري، فمنذ ثلاثة أشهر زرنا إدلب وبعض مخيماتها، لكن هذه الزيارة دون مكياج، ليست مع منظمات دولية أو مع شيوخ داعمين فننتقل من سيارة لأخرى والناس من حولنا لأننا مع ضيوفٍ جيوبهم مليئة؛ بل فرادى بأسمائنا التي سمّانا أهلونا بها بلا مسميات وظيفية ولا حقائب سوداء!

كنا نظنّ بوابة الزمان من حكايا برامج الأطفال الكرتونية، لكن ذلك ما شعرنا به وقد تجاوزنا البوابة التركية وصرنا في الأراضي السورية. فبعد خروجنا من الغرفة المكيّفة حيث تم ختم الجوازات دلفنا إلى (أراضي جرابلس السورية) فطالعنا شباب من الجيش الحرّ استغربوا دخولنا والناس كلها تخرج نحو الأراضي التركية لانتهاء إجازة العيد، فكان جوابنا بالجواز الأحمر ذي الهلال والنجمة، فزادوا بالتحية والسلام، وأركبونا (السيارة) لنتجاوز المنطقة العسكرية ونجد السيارات التي تحملنا إلى حيث نريد.


أصرّوا أن نركب بجانب السائق الذي لم يكن أقل في المفاجأة: لا أعرف؛ فالقادة هم مَن يجتمعون بهم ونحن هنا مرتزقة! كان هذا جوابه لسؤال صاحبي عن الحال والتعامل مع الأتراك في المنطقة، فندمنا لأننا أردنا كسر الصمت بهذا السؤال! حاشاكم أخي فيكم البركة! لا أخي نحن مرتزقة فعلاً والثورة انتهت وكلنا هيك". وأمام إصراره لم نرغب في التطويل وانتهى طريقنا معه والحمد لله.

ولجهلنا بالمنطقة اخترنا أن نركب الموتورات (Motorcycle)، لكننا لم نكن الغرباء وحدنا؛ فسائق الدراجة المصاب في رِجله من ريف حماة: نحن تشردنا وصرنا هنا ولا بد أن نعمل لنعيش! وكان على غربته دليلاً سياحياً بلهجة أعرابية طيبة، لم يترك شيئاً لم يسأل عنه: الاسم والبلد والعمل والأهل وفي السياسة والاجتماع، كل ذلك وهو يقود الدرّاجة وبالكاد أسمعه، ثم كانت الصاعقة منه في (الحراقات): وقد رأيت دخاناً عظيماً أسود فسألته عنه: "أخي: هل تعرف الحرّاقات؟ عفواً لا أعرفها .. أي الحين تعرفها؛ دخان أسود، ووجوه سودة وعيشة سودة؛ لتعرف أنك جاي من الجنة!".

وعندما وصلناها آمنتُ بشيء من كلامه ورأيت صهاريج كبيرة يأتيها النفط لتتم تصفيته بأكثر الطرق بدائيةً وفوضويةً، مع ابتزاز كبير للعمال لصالح أشخاص بأعيانهم يتولون أمر النفط عبر كل الأراضي حتى وسط سورية في مناطق سيطرة النظام.

وصلنا منطقة أشبه بالحماد السوري (المنطقة الصحراوية شرق تدمر) قيل لنا: هذا المخيم للحماصنة! وبعده مخيم لأهل الغوطة! فاختلطت علينا المناطق بيننا وبين السائق وأهل المخيم وكأن سورية اختُزلت من شمالها لجنوبها في بقعة جرداء بريف مدينة الباب من ريف حلب!

خرج أناس من أقاربنا لاستقبالنا بالرصاص والوجوه التي عجزت آلام الخيمة وغبار الأرض أن يخفف من تهلّلها وابتسامتها وسماحة نفوسهم وكرم ضيافتهم، وإن كان آلمني سلام أحدهم على رفيقي وهو خاله دوني لأنه لم يعرفني؛ فقد خرجنا من البلد وهو صغير ولم نكن هرمنا بعدُ كما اليوم!

وفي الجلسة تذكرنا كلمة الرجل التونسي (هرمنا) التي أطلقها بعد أيام من ثورة تونس، لأجدنا هرمنا على الحقيقة لا المجاز، فهذا لم نتلقِ معه منذ عشر سنوات، وتلك صارت جدّة وبالكاد عرفتني لأنها رأتني آخر مرة يوم عرسي، وذاك صار أباً لطفلٍ وكنت التقيته وهو يدرس طالباً في الابتدائي. حتى ابنة أختي آلمتني لما نظرت في وجهي مطوّلاً لتعرف إن كنت خالها الذي ترى صورته على الواتس، فعرّفتها أمها بي وحملتها لتزول وحشتها مني، وابنها الذي تركتُه طفلاً نتقاذفه بيننا صار شاباً بشارب ناعم يلبس لباس المقاتلين الأحرار!

مع الغبار وحرارة الشمس الشديدة كانت أحاديث جميلة مع كل مَن نلتقيه، وإن كانت على حقيقتها تبكي الحجر، فهذا يرجع بنا لبداية الثورة ليذكّرنا بمواقف حصلت بيننا، وثانٍ يرجع بنا القهقرى لآخر مرة التقينا في بلد آخر، وثالث كيف كنا نزورهم في بلدتهم قبل أكثر من عشرة أعوام! وتزحم الدماء في الحديث، فلا تكاد بضع كلمات تمرّ دون (فلان الله يرحمه ... فلان الله يفكّ أسره ... فلان الله يرّده لأهله بخير ... فلان الله يعافيه ويشفيه) لتختصر آلام سورية في هذه؛ فهي بين شهيد وأسير وجريح وشريد!

كنا غرباء في لباسنا وسط الخيمة التي ما بلغناها حتى تغيرت ألواننا، لنصطبغ بما يعلو الناس من غبار الحياة التي إن نجوت من رمالها في فلاة تزيّنت بغبار المباني المهدّمة داخل المدينة، دون أن تعرف آثار من على المباني والمؤسسات، فقد تعاقب على قصف بعضها النظام السوري وداعش والتحالف ومن قاتلوهم من الجيش الحرّ والأتراك، فاختلطت الآثار وتغيرت المعالم أكثر وأكثر.

واجهتنا لافتة بالتركية نبّتهنا أننا وصلنا إلى مدينة الباب وتجاوزنا قنطرة المدينة الصناعية التي يعمل الأتراك على تأسيسها فيها، لنتجاور في الطريق مع عربات الجنود الأتراك، وليرفرف العلم التركي فوق المباني مع علم الثورة السورية تارةً ومع رايات الفصائل أو منفرداً تارة أخرى. وكانت تزدحم بالناس، وليس بأهل الباب وحدهم؛ فالمدينة الحلبية اليوم تحتضن آلافاً من أهل الغوطة ومئات من حماة وحمص وعموم سورية، لا تحتضنهم لاجئين أو غرباء، بل أهلاً وأحبّةً لهم محلاتهم التجارية وبيوتهم وأراضيهم؛ ليتجدد في الذهن أن المدينة لم تعد الباب وحسب بل كل سورية هي الباب؛ لأنها تضم سورية كلها.

أعجبنا إصرار الناس على العمل ممن يسكن البيوت أو الأقبية أو الخيم؛ فالكل يعمل ويريد لقمته معجونةً بعرق جبينه لتطيب في حلقه أكثر، وما أجمل أناساً متطوعين ينتشرون في الطرق الوعرة التي أكل لباسَها الأسودَ العديدُ من السيارات المحملة بالنفط والعربات العسكرية وهزّتها هجمات عسكرية بلا تجديد أو تصليح، يحملون أدوات بسيطة يرممون ما يقدرون عليه ليتصدق عليهم المارّون بما تجود به نفوسهم.

يسأل رفيقي أخته وقد غيّرتها السنون وقست عليها الخيمة: كيف أنتِ؟ فتدور به الأرض قائماً وهي تقول: مبسوطة كثير والحمد لله! ليتذكر كلمتها ويبكي في طريق العودة؛ مبسوطة!
إنها إرادة الحياة .. إنه الإيمان الحقيقي؛ ليس أن تهرب من الوطن لأنك خرجت مما عشتَ فيه وألفتَه، ثم عجزتَ عن حياة أخرى في أرض جديدة من الوطن. إنها إرادة الحياة؛ في أن تعمل ما تعيش منه، سواء أكانت مهنتك من قبل أم لا، فالمهم ما يحفظ ماء الوجه ويصون كرامة المرء عن السؤال، فالأكثرية يعملون فيما ليس من مهنتهم ولا يناسب مقامهم السابق أو شهاداتهم العلمية؛ فهم كذلك خيرٌ ممن يريد مهنته وإن لم يجدها يبدّل الوطن لتكون له مهنته ذاتها بمردودها ذاته!

كانت دروساً قاسية علينا، في التمسّك بالوطن وإرادة الحياة، وأن السعادة ليست في البيت أو السيارة أو اللباس برفاهية؛ بل في العيش بكرامة وإن كان في خيمة تلعب بها الريح.

فإن كنتَ خرجت من الوطن إلى جنّة من جنان الأرض فارجع إليه، ففي خدمته وأهله الجنّة الحقّ التي لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت بمثلها، ولا تنغمس في جنة الأرض فتخسر جنّة السماء!
دلالات
FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.