انتهت ضغوط النظام السوري وروسيا وتهديداتهما المتصاعدة لريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي، بقبول فصائل المعارضة السورية هناك باتفاق "تسوية" حاولت التهرب منه لأيام، غير أن تصعيد النظام وموسكو من قصفهما على المنطقتين خلال الأيام الأخيرة، والتهديد بحرب يدفع فاتورتها عشرات آلاف المدنيين كما حدث في مناطق سورية أخرى، دفعا الفصائل للقبول بهذا الاتفاق.
وحاولت المعارضة تحسين شروط "التسوية" التي طرحها الجانب الروسي، غير أن الأخير بدا مصراً على القضاء على أي معارضة للنظام بالقوة المفرطة في التوحش، وخصوصاً تجاه المدنيين، نقطة ضعف المعارضة الأبرز التي استغلها النظام وحلفاؤه كثيراً منذ بدء الثورة السورية في عام 2011. وبعد العديد من جولات التفاوض خلال الأيام الأخيرة التي باءت بالفشل، انتهى اجتماع مطول أمس بين ممثلي ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي من جهة، وممثلين عن النظام والقوات الروسية من جهة أخرى، إلى التوقيع على اتفاق نهائي بشأن مصير هاتين المنطقتين.
وكانت قوات النظام والطائرات الروسية، قد صعّدت في الأيام الأخيرة من عمليات القصف على المنطقتين في إطار الضغط للقبول بشروط التهجير، بعد أن حاولت القوى الموجودة في المنطقة تلافي خيار التهجير. ودمّر الطيران الروسي مستشفيات ومراكز صحية عديدة، أبرزها مستشفى الزعفرانة الذي يقدّم خدمات صحية لآلاف المدنيين، في رسالة واضحة حول ما ينتظر المنطقة في حال عدم رضوخ فصائل المعارضة للشروط الروسية. وكان الرائد محمد الأحمد، ممثل غرفة عمليات الرستن في هيئة التفاوض عن ريف حمص الشمالي، أكد أن جنرالاً روسياً ترافقه مذيعة في تلفزيون النظام تمثّل الأخير في المفاوضات، "قالا لنا أنتم مجموعات إرهابية لا يجوز عقد اتفاق معكم".
وكان الاتفاق قد قوبل قبل توقيعه برفض كبير من قبل أهالي المنطقة، خصوصاً أنه لم يكن يحوي أي ضمانات لعدم ارتكاب عمليات انتقام واسعة من قبل الموالين للنظام في المناطق المجاورة في حال خروج مقاتلي المعارضة من المنطقة إلى الشمال السوري. وخرجت تظاهرات في ريف حمص الشمالي رفضاً لما وصفه المتظاهرون بـ"اتفاق الذل" الذي تحاول روسيا فرضه في المنطقة. وأكد الناشط في ريف حمص، خضر العبيد، لـ"العربي الجديد"، أن المتظاهرين رفضوا المطالب الروسية بالتهجير، وطالبوا بالبقاء في الريف الحمصي، داعين المنظمات الدولية إلى تحقيق العدالة تجاه الأطفال والمدنيين.
يُذكر أن أغلب مدن وبلدات ريف حمص الشمالي خرجت عن سيطرة النظام في وقت مبكر من عمر الثورة السورية، خصوصاً الرستن ومحيطها وتلبيسة ومحيطها، وتعرضت للتدمير الممنهج من قبل طيران النظام الذي ارتكب العديد من المجازر بحق المدنيين، ما أدى إلى تشريد عدد كبير من سكانها. كما تدخل ضمن نطاق ريف حمص الشمالي منطقة الحولة، شمال غربي حمص، والتي تضم بلدات عدة، أبرزها تل دو، وتل الدهب، وكفر لاها، إضافة إلى قرى وبلدات في ريف حماة الجنوبي، منها حربنسفه.
وتنبع أهمية ريف حمص الشمالي من كونه يقع في وسط البلاد، وتلتقي عنده طرق عدة تربط شمال البلاد بجنوبها، وغربها بشرقها، ومن دون السيطرة عليه من قبل النظام تبقى مناطق سيطرته مقطعة الأوصال، خصوصاً أن الطريق الدولي الذي يربط العاصمة دمشق بمدينة حلب يمر من وسط ريف حمص الشمالي. وتعد مدينة الرستن أهم مدن هذا الريف وتقع إلى الشمال من مدينة حمص بنحو 20 كيلومتراً، وهي من أوائل المدن السورية التي خرجت عن سيطرة النظام بشكل كامل في عام 2012، إذ انشق عدد كبير من أبناء المدينة كانوا ضباطاً في جيش النظام. والرستن هي مسقط رأس مصطفى طلاس، الذي بقي وزيراً للدفاع في عهدي الأسدين الأب والابن لأكثر من ثلاثين عاماً، وتوفي العام الماضي في مدينة باريس. وانشق عدد من أفراد عائلته كانوا ضباطاً في جيش النظام، لعل أبرزهم ابنه مناف، الذي كان أحد أهم ضباط الحرس الجمهوري، ويتوقع البعض أن يكون له دور في مستقبل سورية. وإلى جانب الرستن، هناك مدينة تلبيسة التي تبعد عن مدينة حمص نحو 13 كيلومتراً، وتعرّض سكانها لقصف طيلة سنوات، ما أدى إلى مقتل وإصابة المئات من أهلها، وتشريد كثيرين داخل البلاد وخارجها.
ويقطن في مدن وبلدات وقرى ريف حمص الشمالي أكثر من 300 ألف مدني، عانوا من حصار على مدى سنوات، وهم اليوم على مفترق طرق، فإما التهجير إلى الشمال السوري الذي بات مكتظاً بالمهجرين من كل أنحاء سورية، أو البقاء مع إمكانية قيام قوات النظام وأجهزته الأمنية، والموالين له الذين يقيمون في قرى مجاورة، بعمليات انتقام جماعية بحق أبناء ريف حمص الشمالي، إذ لم يقدّم الجانب الروسي أي ضمانات لعدم حدوثها بعد خروج مقاتلي المعارضة من المنطقة في حال تم التوصل لاتفاق.