روسيا والعرب بين الماضي والحاضر

13 ديسمبر 2018

خروتشوف وجمال عبد الناصر في القاهرة (مايو/ أيار 1964)

+ الخط -
تمتد العلاقات بين روسيا والمشرق العربي إلى قرون عدة. ومنذ أيام القيصرية، اهتم الروس بالشرق العربي والإسلامي، وخصوصا بسبب الصراعات مع الإمبراطورية العثمانية، ثم بعد دخول الإسلام إلى مناطق حوض الفولغا والقوقاز قبل 1300 سنة تقريبا، وانتشار المسيحية في روسيا (عاصمتها كييف حينذاك) قادمة من بيزنطة وسورية، قبل حوالي ألف سنة على يدي الأمير فلاديمير. واستمرت العلاقات الروحية بين بطريركية أنطاكية (حينها كانت جزءاً من سورية) والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، حيث أشرف البطريرك مكاريوس (الدمشقي) بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، قبل ثلاثة قرون تقريباً، على ترقية الكنيسة الروسية من مطرانية إلى بطريركية، وتبعتها زيارات له، أشرف خلالها على إصلاح الكنيسة وحل مشكلاتها. ووصفت رحلة البطريرك مكاريوس التاريخية إلى روسيا في كتاب شائق، سطّره ابنه بولص الحلبي بعنوان "رحلة البطريرك مكاريوس إلى الأراضي الروسية"، وهي مرجع عظيم الأهمية لدراسة تاريخ روسيا.
ولا تُنسى رحلة مبعوث الخليفة المتوكل بالله إلى إمارة بولغار على ضفاف الفولغا في القرن العاشر ميلادي لتعليم المسلمين مبادئ الإسلام، بناء على طلب من ملك البولغار المسلم. وقد شكلت الرسالة التي كتبها أحمد بن فضلان مصدرا علميا نادراً في التاريخ الروسي القديم، إلى جانب أعمال المؤرخين والرحالة العرب، مثل المسعودي وابن حوقل وابن خرداذبة.
وبدأ الاهتمام الحقيقي بالثقافة العربية والإسلامية في عهد الإمبراطور بطرس العظيم، باني الدولة الروسية الحديثة (بدايات القرن 18)، الذي أمر بترجمة القرآن الكريم أول مرة في تاريخ روسيا. وكان ذلك من الفرنسية إلى الروسية، وأمرت الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية بتعليم اللغة العربية في بعض المدارس والجامعات الروسية في نهاية القرن 18 الميلادي.

ولكن الأبحاث السياسية في المدرسة الاستشراقية السوفييتية، بخلاف الأبحاث في مجال الثقافة والأدب والتاريخ والمخطوطات، تأثرت بقوة بالأيديولوجيا والفكر الشيوعي، وحاولت خدمة سياسة الحزب الشيوعي السوفييتي، ما حرمها من تسليط الضوء على ظواهر جوهرية، وتطورات عميقة جرت في الأنظمة العربية، فعلى الرغم من اعتماد تلك الأنظمة شعارات "وطنية وتقدّمية"، إلا أنها مارست سياسة معادية للشعب، حيث خنقت الحريات، وانتهكت حقوق الأفراد، ونهبت الثروات وفرضت القوانين الطارئة عشرات السنين، أي أن مطالب الشعوب كانت تأتي في المقام الثالث في رؤية الاتحاد السوفييتي، بعد الأيديولوجيا والجيوسياسة.
وقد تشكلت مدرسة استعراب روسية مهمة، اهتمت بالأدب والثقافة والجغرافيا والتاريخ واللغة والدين، كان أبرز وجوهها المستشرق إيغناطيوس كراتشكوفسكي (توفي في أواسط القرن العشرين) الذي ترك آثاراً خالدة، وبحوثا قيمة في الأدب العربي والجغرافيا العربية والمخطوطات العربية. وكذلك تأسّست مدرسة استعراب علمية في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، كان مؤسسها المستعرب ومؤرخ الرياضيات أدولف يوشكيفيتش، الذي كتب أول بحثٍ له في تاريخ الرياضيات العربية بعنوان: "الجبر عند عمر الخيام" في أثناء الحرب العالمية الثانية، ونشره عام 1948.

روسيا والشرق الأوسط
معروف أن روسيا القيصرية كانت تسعى دائما إلى الوصول لمياه البحر المتوسط الدافئة لتأمين موقع جيوسياسي واستراتيجي لها في ظل الصراعات الدولية والإقليمية، وقد خاضت من أجل ذلك معارك كبرى مع العثمانيين.
وبدأ الاهتمام الواسع بالشرق الأوسط بعد انتصار ثورة أكتوبر بقيادة فلاديمير لينين 1917، التي بدأت تدعم حركات التحرّر الوطني والأحزاب الشيوعية التابعة لها. وفي فترة الاتحاد السوفييتي، ركزت استراتيجية الدولة السوفييتية على أولوية نشر الفكر الشيوعي، وخصوصا في العالم الثالث، حيث قدمت الدعم في مختلف المجالات للأنظمة العربية الوطنية في مصر وسورية والجزائر واليمن والعراق، حيث كانت ترفع شعاراتٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية "وطنية تقدمية"، معادية للإمبريالية والصهيونية العالمية، لكن أغلبها بقي حبرا على ورق.
وكانت الأجندة الجيوسياسية في السياسة السوفييتية تلعب أحياناً دوراً أبرز، وتسبق الأيديولوجيا، مثلاً لم تمنع الصداقة القوية بين موسكو والقاهرة في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر من زج الشيوعيين المصريين في السجون.
وفي المحور الفلسطيني، نذكر موقف الزعيم السوفييتي، ستالين، الذي وافق على تأسيس دولة إسرائيل عام 1947، واعتراف بها قبل أي دولة أخرى، مبرّراً ذلك برغبته في إنشاء بؤرة للصراع في الشرق الأوسط لتشكيل قلق وإزعاج دائم لبريطانيا العظمى، وأتباعها من الدول العربية. ومعروفةٌ نتائج هذه السياسة غير الودية التي دمرت الشعب الفلسطيني، وأضاعت فلسطين.
نحتاج وقفة تاريخية طويلة ومعمقة لتقييم الدعم السوفييتي والصداقة السوفييتية العربية، لكننا اليوم بعد مضي عقود أصبحنا ندرك أن السوفييت كانوا يلعبون بورقة العالم الثالث، ومنها الدول العربية، في صراعهم العالمي مع المعسكر الغربي. ولم يتمكّن الاتحاد السوفييتي من تقديم دعم حقيقي يصنع نهضة اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية في البلاد العربية، مقارنة بالدعم الذي قدمته الدول الغربية لمساعدة دول عدة، مثل اليابان وكوريا وإسرائيل، في تحقيق تقدم علمي وتعليمي وتكنولوجي. ولكن من الناحية السياسية، نشر الاتحاد السوفييتي نموذج حكمه الشمولي الديكتاتوري في المنطقة، والتي تاجرت بالشعارات الاشتراكية والمعادية للغرب.
والغريب أن هذا النهج استمر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث ورثت روسيا، بقيادة بوتين، وحافظت على العلاقات الودية مع الأنظمة الشمولية التي كانت تقدم لها القيادة السوفييتية عشرات المليارات من الدولارات مساعدات وهبات، على الرغم من أن روسيا تخلت عن الأيديولوجيا الشيوعية، وأصبحت تعتبر نفسها جزءاً من العالم الرأسمالي.
وبقيت السياسة الروسية تجاه المنطقة العربية من دون تغيير، من حيث الجوهر، مقارنة بالسياسة السوفييتية، واستمرت في البحث عن أجندات جيوسياسية واستبدلت الأيديولوجيا بالمصالح البراغماتية المقترنة بمعاداة الغرب.
وشهدت فترة التسعينيات انهياراً في العلاقات بين روسيا والبلدان العربية، لكنها فتحت صفحةً جديدةً من التعاون مع إسرائيل. واليوم، نشهد علاقات استراتيجية بين موسكو وتل أبيب في المجالات كافة. وتعلن موسكو أن أمن إسرائيل أولوية أولى بالنسبة لها. وعلى الرغم من مواقفها السياسية المعلنة منذ 70 سنة إلى جانب الشعب الفلسطيني، إلا أن موسكو لم تقدّم شيئا جوهرياً ملموساً له، يعادل جزءا بسيط مما تقدمه أميركا لإسرائيل، وحتى من وجهة نظر التعاون الروسي الإسرائيلي.

ثورات الربيع العربي

جاءت فترة الثورات العربية لتثبت تخبط السياسة الروسية في المنطقة العربية، حيث وقفت روسيا بقوة ضد طموحات الشعوب العربية في التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واتهمت هذه الثورات بأنها نتيجة مؤامرة غربية، تشبه ما حدث في أوروبا الشرقية والثورات الملوّنة المعادية لموسكو.
لم يقرأ الروس حقيقة التغيرات في البلدان العربية، وكيفية تراكم أسباب عميقة للثورات التي أصبحت مطلبا موضوعيا خارجا عن إرادة الأنظمة. واختارت موسكو أن تقف ضد اتجاه التاريخ، مستخدمة كل ما تملكه من أدوات للحفاظ على الأنظمة الشمولية، وخصوصا في سورية.

وأرادت موسكو استخدام الورقة السورية، بعد الورطة التي وقعت فيها في أوكرانيا عام 2014، بعد ضم القرم وإرسال قوات عسكرية إلى شرقي أوكرانيا، تسببت بعقوباتٍ غربيةٍ واسعةٍ ضد الشركات النفطية وشركات الأسلحة والمصارف ورجال الأعمال المقربين من الكرملين وكل أعضاء الحكومة الروسية، بمن فيهم رئيس الحكومة، وما زالت حملة العقوبات مستمرة، وقد تصل إلى مستويات قاتلة.
ما فعلته روسيا في سورية مفيد جداً، برأي الكرملين، حيث تم تجريب مائتي صنف من الأسلحة الجديدة، وتم إبراز قدرة الجيش الروسي، والحفاظ على نظام الأسد وشبه القضاء على الإرهاب. علماً أن ذلك كله يجب وضعه بين قوسين، فلا الإرهاب انتهى في سورية، ولا شروط الاستقرار السياسي توفرت، كما ادعى وزير الخارجية سيرغي لافروف، ولا نالت سورية استقلالها وسيادتها، ولا استطاع الشعب السوري المشرد بالملايين أن يصل إلى مرحلة تقرير مصيره بنفسه.
ماذا حققت موسكو في سورية: بلادا مدمرة، ونظاما هزيلا فاشلا، وعزلة دولية لموسكو، وأوضاعا داخلية لا تحسد عليها في مجال المعيشة بشكل خاص، حيث هناك حوالي 40 مليون فقير. وارتفعت نسبة التضخم إلى 5% ونسبة البطالة تزيد عن 4%. ولا يزيد حجم الإنتاج المحلي الروسي عن 2% من الإنتاج العالمي. أما النمو الاقتصادي فيقترب من 2%. من جهة أخرى، ارتفعت النفقات على الدفاع والتسليح، وتراجعت في مجال الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم. وبالتالي، تدخل روسيا من جديد مرحلة الحرب الباردة، والمنافسة مع أميركا، لكن الاقتصاد الأميركي أقوى من الروسي بعشرات الأضعاف، وكذلك نفقات واشنطن على الأسلحة تزيد 14 مرة عن موسكو، فكيف لموسكو أن تجابه حلف شمال الأطلسي (الناتو)؟
وترتفع أصوات عديدة من محللين سياسيين واقتصاديين وكتاب وشخصيات سياسية روسية، تطالب بالخروج من سورية، وتدعو إلى الاهتمام بالوضع الداخلي، وحل مشكلات الناس. ولم يحقق التدخل العسكري الروسي لروسيا سمعة حسنة، فإبراز القوة والعضلات ليس الطريق الأفضل لاكتساب سمعة طيبة، ولتوطيد الصداقات مع الشعوب. وقد سألتُ خبيراً روسياً عن سياسة موسكو في سورية والمنطقة، ما هي؟ فرد علي إن موسكو لا تخطط إلا لأسبوع، ولا تعرف ماذا تريد بالضبط، لكن الأحداث هي التي تملي مواقفها السياسية.
السياسة الخارجية الروسية على المحك في المنطقة، فالانتصار العسكري لا يعني بالضرورة انتصارا في مرحلة السلم ولا انتصارا سياسيا، فبدون الاعتراف بحق الشعب السوري في الحرية والكرامة ودولة المواطنة والقانون لا يمكن لموسكو أن تحافظ على مصالحها المشروعة في سورية. فالشعب السوري يرى في روسيا دولة احتلال، مثل أميركا وإيران وغيرهما. ولا بد لروسيا من تعديل سياستها في المنطقة، حتى تحفظ مصالحها مدة طويلة، فبشار الأسد ليس هو الشخص المناسب لكي يحفظ لروسيا مصالحها، حيث هو نفسه لا يضمن بقاءه.
وعلى الرغم من أن الدولة الروسية علمانية، إلا أنها قدمت غطاء لدور إيراني طائفي قومي خبيث، تجسّد في نشر التشيع والفكر الصفوي في سورية، وفرْضِ تغيير ديمغرافي، ولن يغفر السوريون لروسيا ذلك الموقف. وقد سمعنا تصريحات كثيرة من مسؤولين ومستشرقين روس، يقولون إن نظام الأسد علماني، ويتخوفون من انتصار الثورة السورية، باعتبارها انتصارا للمسلمين السنة. هكذا ببساطة يقيمون الوضع السوري من وجهة نظر دينية متخلفة، وليست حضارية، ولا علمانية. وهكذا يحاولون تقزيم الثورة الشعبية السورية وتضحيات الشعب السوري الذي خرج بالملايين إلى الشوارع طلبا للحرية والكرامة.

وحاولت روسيا إعطاء صورة سلبية عن الثورات العربية، واتهمتها بأنها إسلامية، علما أن الشعوب قامت بشكل عفوي، ورفعت شعارات وطنية، لكن موسكو حاربتها منذ اليوم الأول، ووقفت بقوة إلى جانب الأنظمة الاستبدادية الفاسدة.
وقد يقول قائل إن هناك تحسناً في علاقات روسيا ببعض الدول العربية، وخصوصاً الخليجية. لكن الحقيقة أن هذه العلاقات مؤقتة تماماً، وتعكس تقاطع مصالح مرحلية، نتيجة عوامل دولية وإقليمية مرتبطة بالسياسة الأميركية والدور الإيراني في المنطقة، إذ لا يمكن الحديث عن تحسن حقيقي وجوهري في علاقات موسكو بأيٍّ من الدول العربية، كون أغلبها تقع تحت التأثير الاستراتيجي الأميركي.
والخلاصة: بعد الفشل السياسي والأخلاقي الروسي في المنطقة، نرى أن هناك حاجة ماسة للعمل على بناء علاقات ثقافية واجتماعية وفكرية مع النخب الروسية العقلانية، البعيدة عن البروباغندا للسياسة الرسمية، فمصالح الشعوب هي التي ستتحقق في النهاية. والأنظمة والحكام راحلون عاجلاً أم آجلاً، ودماء السوريين الطاهرة ستنتصر على الجلادين والمحتلين.
C7A15298-ED28-4EE5-B994-CA0DF79595A2
C7A15298-ED28-4EE5-B994-CA0DF79595A2
محمود الحمزة

باحث سوري، أستاذ جامعي في الرياضيات وتاريخها، كبير باحثين في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا في أكاديمية العلوم الروسية من 2002 إلى 2016. رئيس المجلس الوطني لاعلان دمشق في المهجر سابقا.

محمود الحمزة