روزنامة جديدة في ذكرى الثورة

09 مارس 2020
+ الخط -
لكلّ أمةٍ تاريخٌ تجعل من أهم أحداثها بدايةً له، فمنها ما يؤرّخ بحدثٍ ديني، ومنها ما يؤرّخ بحدثٍ دنيوي يليق لأن يكون منطلقاً لتاريخٍ جديدٍ لأمة من الأمم.

ولعل من المكرَّر الحديث عن التقويم المعتمد لنا في أمة الإسلام والعروبة، ولا سيما في سياق الانهزامية التي تأخذ بالنُّخَب السياسية والفكرية - وربما الدينية - وتراجُع الشعور بالهوية الثقافية والوطنية انسياقاً مع تيار العولمة ومفرزاته، فنجدنا في كثير من أمورنا ملكيّين أكثر من الملك نفسه؛ ولا يخرج التأريخ والتقويم عن تلكم الحال مع الأسف.

ولو شاء السوريون إنصاف أنفسهم لَـمَا كان غروراً أن يؤرّخوا لبلدهم بانطلاق الثورة السورية، وإن كنا - ويالَلأسى والحسرة! - نختلف في هذا التاريخ كذلك؛ فهذا التاريخ الذي يرسم خريطة سورية في هذا العصر، بل ولا أبالغ إن قلت: إن الثورة السورية سبب في إعادة رسم خريطة المنطقة برمّتها بعد جولاتٍ مضت في خلط حدودها خلال عقود ماضية؛ ولعل المخاض الذي ضرب الشام لتولد من جديد آذَنَ بولادة جديدة فيما حولها كذلك. ومع ما مرّ من مدّ في مسيرة ثورتنا وجزر، لَجازَ أن تكون المحطات الفاصلة في تأريخ ثورتنا علامات أو أعياداً وطنية نراجع أنفسنا فيها؛ من سقوط القصير إلى حلب ثم الغوطة... ثم الشمال!

وإن كان يتعذر اليوم التأريخ بانطلاقة الثورة، أو إعلان تلك المحطات فواصل تاريخية، فمِن الواجب مراجعة ما كان؛ فما تساقطت أوراق روزنامة تلك الأعوام من عُمر الثورة عبثاً، ولا خسرنا تلك المناطق متتاليةً دون سبب؛ فمع كل ورقة أو منطقة كانت تسقط، كانت تهوي معها بأناس ومشاريع ومؤسسات في مختلف مناحي العمل الثوري؛ وهنا تتأكد مراجعة الروزنامة الجديدة ألا تُطبع عن نسخة مصورة قديمة، فتجد الأوراق التي تساقطت في عامنا أو حدثنا المنتهي مكانها من جديد، وإنْ في غير موضع؛ فإنَّ مَن يسقط مِن يد التاريخ لا يرجع مرة أخرى، والمؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين؛ ولنكفَّ عن ذاكرة السمك التي صرنا مضرب المثل فيها.


إنَّ الوحل الذي تغوص فيه نساؤنا وأطفالنا تحت أشجار الزيتون اليوم في إدلب تمرّغت فيه أنوفنا قبل أقدامهم، بل لعل آثاره فينا أكبر من آثاره فيهم. ولا يلتفتنَّ أحدٌ جانباً كأن الكلام يعني جاره ولا يعنيه، فلكل منا كفلٌ مما يحدث وعليه مسؤولية. وليس هذا من جلد الذات، بل من الموضوعية والمواجهة بالحقيقة؛ فالوحل الذي يغوص الأطفال فيه غاصت بأبشع منه وأشد تلوثاً المعارضةُ السياسيةُ بارتمائها في أحضان الدول كما أرادت لها الدول، بل وفي أحايين أخرى أكثر مما تريدها أن ترتمي؛ فانتهت عاجزة عن بيان يستأهل ثمن الورق الذي يُكتب عليه!

والمعارضة المسلحة أكثر جرماً وغوصاً؛ لأنها غاصت في الدماء، وليس شيء أعظم حرمةً من الدم! وكان لكل منها "حسون" و"جمعة" و"سامي" و"ربيع" و"إمام" يفتي لها بمروق الطرف الآخر ويحلّ لهم دماء عناصره وأمواله وسلاحهم، حتى زكمت الأنوف من روائح دماء الأبرياء؛ فضلاً عن الارتهان للداعمين والميسّرين والمعنيّين وأصحاب المصلحة!

وليست منظمات المجتمع المدني بمنأى عن ذلك؛ فهم بين داعمين يدفعون إليهم بمشاريع على مذهب مَن يدفع، لا وفق حاجة الناس، ولكن لا بد من موافقتهم للتعيُّش من حصة المنظمات التشغيلية، أو مشاريع يُدفع في إعدادها ودراستها أكبر مما يستفيده المستفيد منها على الأرض!

لتبقى الكارثة اليوم بحجمها الأكبر على أكتاف أطفال يزيد المحرومون من التعليم منهم على 2.15 مليون طفل، وعلى أكتاف مصابين ومعوَّقين عجزت الثورة بكل مؤسساتها حتى اليوم عن إحصائيات دقيقة لأعدادهم، وليس عن دراسة إصاباتهم وتأمين احتياجاتهم، وعلى أكتاف أرامل وأيتام تتناهبهم مؤسسات بأجندات لا تتوافق مع ديننا وثقافتنا، فيمضي كثيرون معها تحت ضغط الحاجة والعوز.

لعلها أوراق تساقطت بتواريخ أيامها؛ لكنها في نفوس السوريين محفوظة باقية، في أنين اليتيم وتأوّه الجريح، وفي لوعة الثكلى والأرملة، وفي صرخات المعتقلين المعذَّبين.

فهذا الذي يجب أن يثبت في الروزنامة الجديدة، لتكون أعياداً وطنيةً تعظّم الحرية وليس الأفراد! فلندقق معاً الروزنامة قبل اعتمادها وتوزيعها؛ ولنبدأ كلٌّ بنفسه ومَن يعول أو يُدير، لنتبيّن معالم عامنا المقبل، فالتوافق في أرقامه لا يعني تمام الانسجام في أحداثه والرحمة في وقائعه.

فلأنظر في نفسي كيف أقسم أيامي وشهوري؟ ماذا أريد أن تكون فيها معالم ثابتة في سياق انتمائي إلى ثورة الكرامة في بلدي؟ أم أنني "بطّلت ثورة" وأريده عاماً جديداً في حياة أخرى بعيدة عن الآلام؟

كلّا؛ فليس يطهّر النفس من أدرانها شيء كالآلام لتخلص من شوائبها، فأحرص على أن يكون لآلام أهلي موقع في روزنامة عامي الجديد؛ فالألم قاسم مشترك لي معهم في أي بقعة رمتني الأيام، فلا أنفكّ عنه فهو الذي يحفّزني على العمل للقضية؛ ألم يقولوا في الإبداع: الألم عبقريّ!

والثورة السورية اليوم على امتداد سنوات فقدت في نحو مليون شهيد ومعتقل كوادرَ لو أنها ماتت في دولة لَسقطت؛ فماذا نحن فاعلون؟! ألا يكفينا هذا وحدَه لنكون مميّزين في شتى مجالات الحياة، فالبلد بحاجة ماسّة للمميّزين، وفيها فائض من الكسالى والهامشيين!

لن أرضى لنفسي وأبنائي بأقل من التميّز في العلم والعمل والحياة؛ فنجاح الثورة من نجاح أبنائها، وإن كنا نرى أنفسنا من أبنائها، فعلينا ألا نرضى بما دون النجاح والتميّز.

واليوم على أبواب العام للثورة يمكننا إدراك مخاطر حرمان أطفال سورية التعليم؛ فهذا أكبر سلاح في صدر الثورة التي قامت، فلا غرابة إن تباطأت الجهات الدولية بدعم التعليم وانصرفت به نحو برامج تعزّز ما تريده لشعبنا؛ فليكن عامنا الجديد مثلاً عند مختلف القطاعات والاتجاهات وعند المنظمات الإنسانية: "عام التعليم"؛ فهو أكبر قطاع ظُلم على مدار سنوات الثورة كلها، وتُرك بأطفالنا وطلابنا نهباً لمنظمات وجهات بهويات شتى في الداخل السوري ودول الجوار، فلن يكون إعمار دون تعليم، ولن تكون لنا هوية وطنية دون تعليم؛ فالتعليم هو سبيل الإعمار ومفتاح بناء هوية ثقافية وطنية جامعة.

مضت أعوام وسقطت مناطق ولم يسوّد صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين شيء كالتخوين، حتى صارت من علاماتنا المميزة عند غيرنا، وباتت وسائل التواصل أدوات تقاطع وتدابُر! فما أجمل أن نثبت في روزنامة العام الجديد للثورة أنه "عام المحبة"، وعام المصارحة والمناقشة الهادئة بعيداً عن التكذيب والتخوين، وليكن ما بعد اليوم ليس كما قبله؛ ألم يكن مجلس العزاء في الحي قبل الثورة يجمع الناس كلهم مهما كانوا متدابرين متخاصمين؛ وأي مصيبة وعزاء أكبر مما نحن فيه، فإن لم يكن لنا فرح يجمعنا ونحن نرقب الفرح الأكبر بانتصار ثورتنا فلنجتمع للمصاب الذي نحن فيه، ثم يكون لنا في فضاء الحرية أسقفٌ عديدة نختلف تحتها ونتناقش، بعيداً عن السلاح والدماء وهَيشات البلطجية والشبيحة!

لسنا بحاجة اليوم لشيء مثل حاجتنا للتفاؤل والبناء، ولو أننا سلّمنا أنفسنا للعجز وانهزمنا من داخلنا، فلن ننتصر، ولو وقفت أمم الأرض وراءنا، فكيف والعالم كله بين متآمر علينا وعاجز عن نصرتنا؟! فكلمة السرّ في أيدينا بمحبتنا للبناء لا للهدم، بمحبتنا للفأل دون الانهزام والعجز؛ فإنه "لا يشرق الفجر إلا في دُجى الألم"!
FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.