حتّى وأنا في لبنان، أتغرّبُ عن بيروت. لا أقصدها كثيراً، هذه المُريحة التي ترتدي بنطالاً ممزقاً وحذاءً مصنوعاً من قماش وردي. أصنعُها فأهرع إليها قبل أن أغترب مجدداً. مرةً يملأها زكي ناصيف بورود وتلال ونسائم فتصيرُ طريّة مثل موسيقاه، ويصبح السيرُ فيها حراماً. ولا يجوز غير التمايل بين خطوة وأخرى.
رجعتُ إلى بيروت. هذا محالٌ جديد لا يعنيني. أبحث عن الروح وها هي تخرجُ منّي إليها. تكبرُ الروح وأستعيد بيروت. وبين الإسمنت، ثمة شقوق للنسائم، وقد ثارت خصلاتٌ من شعري على رأسي. لن تتأثّر بالتغييرات. الروح لا تموت. أناديها فتهبط من الغيم إلى السماء التي نطاولها. تعود الروح وأعثر على الزاوية التي أشتري منها قهوتي، والرصيف الذي أتعثّر عليه، وأسمعُ أصوات من أحب. هؤلاء لا يتغيّرون أيضاً. يستعيدون أرواحهم إذا ما شعروا بالخطر.
في الجامعة الأميركية في بيروت، عرفتُ كيف يسهر القمر مع بيروت. كانَ قريباً من القاعة التي تغنى فيها أغنيات زكي ناصيف. وكان أكثر قرباً من ناس يستعيدون أرواحهم. في هذا المكان، ترغب أن تجلس في فيء شجرة وإن كانَت الشمس قد غابت قبل ساعات. كأنها لحظةُ دفء مع بيروت. وإذا ما نظرت إلى الشجرة من سطح القمر القريب، ستجدها ترتدي ثوب عرسٍ أخضر فاض عن ساقها. الأرواح الجميلة هنا. وأنا في بيروت.
موعد الحفلة تزامن مع موعد بدء معظم نشرات الأخبار في لبنان. الكلمات نفسها عن دولة فاسدة ومواطنين صامتين وطعن مارسيلينو زاماطا في منطقة ساسين في بيروت،... في النشرة، لم يعد الخبر جديداً وقد مرّ على وقوع الجريمة يوم كامل. أسمعه ولا أتفاجأ ولا أصدّق. أذهبُ إلى بيروت أشمّ فيها رائحة القهوة وبحر لا يفهم كثيرون تقلّبات موجه.
إنه لأمر بسيط إذاً أن يخرج أحدهم سكيناً من جيبه، ويطعن آخر حتى الموت. قبل قليل كنتُ في ذلك المكان ولم أمكث فيه طويلاً. رائحةُ كعكة الشوكولاتة في المنزل تُمهّد للقاء بيروت. هو الدفء. القتل بعيد، في لبنان آخر، ليس في المدينة التي تبنّيتها.
إذا كانَ لبيروت أن تكون أمّاً، سيهجرها جميع أولادها. وإذا كان لها أن تكون ابنة، ستموت أمهاتها خجلاً من الهجر. هي الأصل، وتلك التي أزورها مجرّد صورة. في لبنان أكثر من بيروت. ينقصني فنجان قهوة من كرتون، وقليل من أغنياتنا المشتركة، وبحر، وأصواتهم، وروح لأصنع بيروت.
أسمعُ أغنياته وأبحث عما بقي من تلال. هذه فراشة يبدو أنها ضلّت طريقها. لا تخافي. ارتاحي قليلاً على كتفي، وسيقترب منّا القمر. دعينا نصنع روحاً لبيروت.
اقرأ أيضاً: عيون القلب سهرانة