روبن كريسويل في "مدينة البدايات": قصص الحداثة العربية

02 سبتمبر 2020
من بيروت مطلع الخمسينيات (Getty)
+ الخط -

في وطننا العربي، يتلازم ذكرُ العواصم عادةً مع ظهور زعماء أو عواصفَ سياسية أو اقتصادية أو طبيعية، ولكن من النادر، بل ومن المحال تقريباً، أن يتلازم ذكرُ العواصم مع ظهور حركاتٍ أدبية أو فنية. لهذا ربما يثير الدهشة أن يظهر كتابٌ تتصدّر عنوانَه بيروتُ بوصفها "مدينة البدايات"، وأي بدايات؟ بدايات حركة الحداثة الثقافية في التاريخ العربي المعاصر، والحداثة الشعرية تحديداً. والأكثر إثارة للدهشة أن يؤلّف هذا الكتاب أحد أساتذة الأدب المقارن في اللغة الإنكليزية، الشاب روبن كريسويل، الباحث في الأدب العربي المعاصر، والمترجِم لعدد من أعماله.

يتناول الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة برينستون في ولاية نيوجرسي الأميركية، بعنوان "مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت" (2019) بروز حركة أدبية حداثية في منتصف خمسينيات القرن العشرين جعلت من بيروت عاصمة لـ الشعر العربي الحديث، حركة ينسبها المؤلّف إلى مجموعة من المثقّفين المحليين والمنفيين والمهاجرين استوطنت في منطقة الحمرا في بيروت الغربية، وحوّلتها إلى وطن ثقافي لها، وسيُقدَّر لشعراء هذه المجموعة إحداث تأثير مهم على مسار الشعر العربي، كما يقول.

مدينة البدايات - القسم الثقافي

 

وكأيّ جماعة فنية من جماعات أوائل ومنتصف القرن العشرين، تجمّع الحداثيون العرب حول مجلّة كان لها مفعول المركز العصبي لحركتهم هي مجلة "شعر"، الفصلية المكرَّسة للشعر ونقده. ناشر هذه المجلّة هو الشاعر يوسف الخال في عام 1957، بعد عودته إلى بيروت من الولايات المتحدة الأميركية حيث أقام منذ عام 1948 وحتى 1955، مستعيراً لها عنوان مجلّة "شعر" الأميركية التي أصدرتها هارييت مونرو (1860 - 1936) عام 1912، والتي يتواصل صدورها حتى الآن، ونهض شعراؤها بدور كبير في تطوير الشعر المكتوب باللغة الإنكليزية. 

يتناول بروز جماعة "شعر" في بيروت منتصف الخمسينيات

نشرت "شعر" البيروتية، على امتداد فترة امتدت بين 1957 و1970، تخلّلها انقطاع دام سنتين، 44 عدداً، وضمّت قصائدَ وبياناتٍ شعرية ونقداً ورسائلَ مراسلين من مختلف العواصم. وكان انفتاحها على الأدب الأجنبي، الغربي حصراً، طريقة من الطرق التي عرّفت بها حداثتها. وترافقت هذه الحركة ومجلّتُها مع صعود العاصمة اللبنانية كمركز للحياة الثقافية حلّ محل القاهرة التي كانت تعتبر حتى ذلك الوقت مركز هذه الحياة. 

هذه الحركة يعتبرها الكاتب أكثر الحركات الأدبية أهمية في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية. وتمّيزَ ما أنتجته من أعمالٍ بطموحه الجمالي وتماسك خطابه. وقدم شعراؤها مفهوماً للحداثة أكثر عمقاً ممّا كان شائعاً في المنطقة بين الحركات الأدبية الأُخرى. فهذه الحركات تَستخدم مصطلح "الحديث" أو "الجديد" أيضاً، في الإشارة إلى الانفصال عن التقاليد الشعرية الموروثة، ويمكن العثور لديها على استعارات لأشكال غربية، وجوانب من الحياة المعاصرة، وهي ممّا يمكن العثور عليه في أي شعر مهمّ كُتب بالعربية خلال هذه الفترة، ولكن الحداثة بالنسبة إلى شعراء مجلّة "شعر" لم تكن مجرد كشّافٍ بأسماء أشياء جديدة، بل أداة لإعادة تعريف الشعر. أو هي بتعبير الشاعر أدونيس، السوري/ اللبناني، الذي يضعه الكاتب على رأس هذه الحركة، واستعار تعبير "مدينة البدايات" من مقالة له في وصف بيروت حين وفد إليها: "تجربة ثقافية حضارية من حيث الجوهر، غيّرت مفهوم الشعر ذاته، وطريقة كتابته أيضاً".

روبن كريسويل - القسم الثقافي
(روبن كريسويل، تصوير: آنيت هورنيشر)

يبدأ الكاتب بتتبُّع آثار الصعود التاريخي والثقافي لحركة الشعر الحداثي. ويشدّد على أهمية بيروت في تحديد شروط هذا الصعود، ليس بسبب المكانة التي احتلّتها هذه المدينة فجأةً كمركز للحياة الثقافية العربية فقط، بل بسبب موقعها الحاكم في تاريخ الحداثة العالمية خلال مطلع الحرب الباردة. وكان لتراث لبنان الطويل من المثقّفين القادمين من فلسطين وسورية، وبعد ذلك من بلدان عربية أُخرى، إلى جانب ما تميّزت به مؤسّساتها الثقافية، الجامعة الأميركية والمنتديات الفكرية من خواص، الأثر العميق على صورة الحداثة التي احتضنها شعراء مجلة "شعر". ويلاحظ أن لدى هؤلاء خلفية سياسة مشتركة جامعة، فهم من المنتمين سابقاً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اعتَبر الكاتب فكره أحد أصول الحداثة العربية ممثَّلاً في دعوة مؤسّسه أنطون سعادة إلى ما سمّاه "الأدب الحيّ" ونقده "لفوضى وتخبّط الأدب السوري، إلى جانب الشعر المهجري بالطبع. ونسب إلى هذه الخلفية ذات الأهمية في تحديد فهمهم المتميّز للحداثة، على الرغم من أن مفهومهم للحداثة كان ممّا هو معتاد النظر إليه بصفته ظاهرة عالمية بعد الحرب، ظاهرة حداثة متأخّرة حسب تعبيره.

وبعد وصف الكاتب لأبعاد حركة الحداثة التاريخية والثقافية، يحلّل مجموعتَين شعريّتَين رأى أنهما من أكثر المجموعات تمثيلاً لطموحات هذه الحركة الجمالية؛ مجموعة "أغاني مهيار الدمشقي" (1961) لأدونيس، ومجموعة "لن" (1960) لأنسي الحاج، ليظهر كيف شكّل التاريخ الثقافي والسياسي الذي حلّله في الفصول الأولى منطق قصائد هاتين المجموعتين. ويركز في الفصلين الأخيرين على أعمال أدونيس الشعرية ومواقفه وآرائه، فيقف منها موقفاً ناقداً، فيأخذ عليه خلوّ أطروحاته من التفسير التاريخي، مثلما يأخذ على شعراء هذه المجموعة إغراقهم، تحت ستار الدعوة إلى استقلال القصيدة، واكتفائها بذاتها، كما أراد يوسف الخال، في التجريد والانفصال عن كل ما هو ذو ملمح محلي أو وطني بحجة "العالمية" ومعاييرها "الإنسانية". ويربط بين هذا الاتجاه "الحداثي" الذي يشدّد على إفراغ الأدب من أي مشهد محلي أو اجتماعي أو سياسي وبين ميول شعراء وكتّاب هذه الجماعة التي تناغمت في أجواء الحرب الباردة مع متطلّبات منظّمة أميركية اسمها "منظّمة حرية الثقافة" كشفت صحف أميركية، مثل "نيويورك تايمز"، في عام 1966 أنها واجهةٌ من واجهات المخابرات المركزية الأميركية. 

يأخذ عليهم الانفصال عما هو محلي بحجة "العالمية" 

وفي عرضه لأعمال مؤتمر روما للأدب العربي (1961) الذي عقدته هذه المنظّمة وحضره شعراء مجلّة "شعر"، وألقوا تحت مظلّتها محاضرات عمّا سمّوها "أزمة" الأدب العربي، والثقافة العربية، يتبيّن القارئ كم كانت غالبية هؤلاء الشعراء العرب مخدوعةً ومنساقة تحت شعارات الاستقلال والإنسانية والحرية لخدمة ما سمّاها الكاتب "أيديولوجية" كاملة الأوصاف في خدمة السياسة الأميركية بذريعة نبذ الأيديولوجيا واستقلال النشاط الأدبي.. وما إلى ذلك. وتظهر الصور المنشورة في الكتاب، والتي لم يسبق أن شاهدها أيُّ قاريء عربي، شعراءه العرب "المشهورين" يحيط بهم ضبّاط مخابرات مثل جون هونت الذي يقول الكاتب إنه كان مدير مكتب هذه المنظّمة في باريس. 

مجلة شعر - القسم الثقافي

 

كانت هذه المنظمة تمتلك، كما يقول "أكثر من عشرين مجلّة شهيرة (ومنها "أدب" وحوار" الناطقتان بالعربية)، ولديها مكاتب في 35 بلداً، ومع أنها كانت تشدّد على الفصل بين القيم الجمالية والسياسية، إلا أنها أنشأت حيزاً لثقافة تُعلي من قيمة ووزن كتّاب معيّنين أكثر من غيرهم، وتجعل منهم عبر أبواقها وأجهزتها أبرز شخصيات العالم الأدبية".

في إحدى الصور نرى الشاعر بدر شاكر السياب بقامته النحيلة يقف بين ضابط المخابرات هونت ومورو بيرجر أحد كبار المتعاونين مع هذه المنظّمة وصاحب كتاب "العالم العربي اليوم" (1962)، وفي صورة أخرى نرى يوسف الخال وأدونيس وإغناسيو سيلون وستيفن سبنسر، وكلا الأخيرَين يعمل تحت المظلة المخابراتية ذاتها. ونجد في صورة أُخرى المتعاونين العرب مع منشورات ومطبوعات هذه المؤسّسة، أو مراسليها، على مائدة واحدة؛ توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وأدونيس. 

يقول الكاتب وكأنه يشرح مغزى هذا الحشد الحداثي في مؤتمر روما: "إحدى مهمّات كتابي هي تفكيك تناقضات هذه الليبرالية المتطرّفة، لأن الإصرار على البعد الأدبي لهذه الحداثة المتأخّرة لا يعني تجاهل المفارقات التي أتخم بها تاريخها. إن ادّعاء الاستقلالية الأدبية، وبجواره الشعارات المدافعة عن الحرية الثقافية والفكرية، يتعرّى، هذا إن لم يصبح باطلا كلياً، حين نتمكّن من إظهار أنَّ دعاتها لديهم أهداف سياسية أو يعتمدون على دعم سريّ من مؤسّسات... ولهذا تضمّنت هذه الدراسة تاريخاً تفصيلياً، يعتمد على مصادر أرشيفية، لصفقات الحداثيين العرب الكثيرة مع "منظّمة حرية الثقافة"، واجهة المخابرات المركزية الأميركية، التي دعمت المثقّفين المعادين للشيوعية في مختلف أنحاء العالم خلال العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية".

ويضيف "صحيح أن مجلة "شعر" لم تموّلها منظّمة حرية الثقافة، إلا أن ما نشرته من مبادئ كان صدى إلى حد ما لأفكار الحداثة المتأخّرة العامّة، تلك التي رسّختها هذه المنظمة وحلفاؤها الليبراليون في مختلف أنحاء العالم... ووضعت مجموعة "شعر" مشروعها بحذر في مجال الحياة السياسية اللبنانية، حتى وهي تتظاهر بالعلو عليها أو الوقوف جانباً بعيداً عنها".

والواضح أن الكاتب، في كشفه هذا، لم يأخذ بما قاله أصحاب هذه الحركة وأنصارها عن أنفسهم، بل مزج في كتابه بين التاريخ والنقد، ولم يتجاهل خصومها الحداثيين أيضاً حسب توصيفه، وما دار من صراع بين شعراء ونقّاد "شعر" الذين لم تكن "العولمة" تعني بالنسبة إليهم إلّا استعارة المنظور الغربي إلى العالم، وشعراء مجلّات أُخرى مثل "الآداب" و"الطريق" اللتين تجمّعت حولهما في بيروت حركتا حداثة أيضاً، ولكن توجّهاتهما قومية ويسارية، ولا تنافر في رؤيتهما بين الوطني والعالمي. 

صحيح أن بيروت كانت "مدينة بدايات" بالفعل، ولكن الكلّ كان يحاول تحديد اتجاه البدايات... وما بعدها... وما بعدها... حتى منقطع النفس.

المساهمون