رواتب اللبنانيين... المصارف "تحتجز" الأموال وأولوية الإنفاق للضروريات

17 ديسمبر 2019
كم سقف السحب اليوم؟ (حسين بيضون)
+ الخط -

في بداية كل شهر، وكما تقتضي العادة، لا بدّ للناس من سداد المتوجّب عليهم من فواتير. لكن مع انطلاقة ديسمبر/ كانون الأول، كانت الأمور مختلفة في لبنان، فالمصارف أخذت على عاتقها مهمّة إدارة "مصاريف" عملائها، محددة ما يجدر إنفاقه وما يجب تأجيله!

"المصارف تحجز على أموالنا". تكثر شكاوى اللبنانيّين ويتزايد تململهم يوماً بعد يوم. هم يتقاضون أجورهم، وإن قُضِم بعض منها لسبب أو لآخر، غير أنّ المصارف تصادرها وتجدول عمليّات سحبها، كأنّما هي حريصة على تنظيم شؤون أصحابها الماليّة أكثر منهم. ويتناقل المعنيّون نكاتاً في السياق، منها "كنّا نقسّط للبنك صار البنك يقسّط لنا"، وأخرى مصوّرة تظهر أشخاصاً يراقبون من خلف عازل زجاجيّ أموالهم في غرف فُرضت عليها حراسة مشدّدة، وغيرهما من الطُرَف التي يمكن تصنيفها في سياق "الكوميديا السوداء".

وسط الضغط الماليّ الذي يتفاقم في الآونة الأخيرة نتيجة الأزمة الاقتصاديّة في البلاد، أصدرت مديريّة الإعلام والعلاقات العامة في جمعيّة مصارف لبنان بياناً، في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، أعلنت فيه عن "لائحة تدابير موقّتة" في ظلّ "الأوضاع الاستثنائيّة الراهنة"، حرصاً على "مصالح العملاء والمصلحة العامة"، مع تأكيد الجمعيّة أنّ ذلك "لا يشكّل قيوداً على حركة الأموال". من تلك التدابير "تحديد المبالغ النقديّة الممكن سحبها، بمعدّل ألف دولار أميركيّ كحدّ أقصى أسبوعياً، لأصحاب الحسابات الجارية بـالدولار". هكذا كانت الحال بداية، قبل أن تُتاح لكلّ مصرف إمكانيّة اتّخاذ ما يراه مناسباً في السياق، أي خفض سقف عمليّات السحب الأسبوعيّة. وبالفعل، وصل الأمر بمصارف عدّة إلى تحديد ذلك السقف بمئتَي دولار فقط لا غير. كيف تستطيع عائلة تدبّر أمورها بمبلغ مماثل أو بثلاثمائة أو بأكثر بقليل؟ سؤال يطرحه كثيرون وسط قلق مبّرر. فاللبنانيّون بمعظمهم متورّطون في عمليّات "شراء بالتقسيط" تُستحقّ سنداتها عادة في بداية كلّ شهر.




إلى جانب سندات المنزل والسيّارة والأثاث والأدوات الكهربائيّة المنزليّة والهواتف الذكيّة وأجهزة الحاسوب، تأتي فواتير الهاتف (أرضيّ وخلويّ) والكهرباء (فاتورة مؤسّسة كهرباء لبنان الرسميّة وفاتورة المولّدات الخاصة) والمياه والاشتراك في المحطات الفضائيّة والاشتراك في خدمة الإنترنت، من دون ذكر أقساط المدارس والحضانات والجامعات وبدلات النقل وغيرها. كذلك تأتي مستلزمات المنزل المختلفة من مواد غذائيّة وأخرى للتنظيف وما إليها. ولا تنتهي الأمور هنا، فبالنسبة إلى كثيرين، ثمّة فاتورة دواء شهريّة لا بدّ من سدادها... وتطول القائمة.

في الأوّل من ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري، فور علمه بتحويل راتبه إلى حسابه المصرفيّ، راح ربيع سعدون يستشير زملاء وأصدقاء، في ما يشبه استطلاعاً للرأي، حول كيفيّة التصرّف بماله. "هل أؤجّل سداد سند السيّارة؟ وماذا عن سند جهاز الكومبيوتر؟"، مبرّراً "أنا في حاجة إلى سيولة بين يدَيّ، وبالدولار الأميركيّ". بالنسبة إليه، وهو موظّف في شركة إعلانات، فإنّ "المصارف تصادر أموالنا، ويريدوننا أن نسدّد دفعات القروض والفواتير"، مؤكّداً أنّه يعيش "حالة إرباك لم أعرفها قطّ". ويبدو الإرباك أمراً شائعاً في الشارع اللبنانيّ اليوم، بالتالي فإنّ ربيع ليس حالة معزولة، لا بل وضعه يُعَدّ أفضل من سواه، ويقول "أنا مسؤول عن نفسي فحسب. لست متزوّجاً وأسكن في منزل ورثته عن والدَيّ، بالتالي لا سندات إسكان ولا بدلات إيجار ولا أقساط مدرسيّة ولا حفاضات ولا حليب".



قبل خمسة أيّام، سحبت نيلّي حدّاد ثلاثمائة دولار من حساب التوطين الخاص بها، وهو السقف الذي حدّده مصرفها لمثل تلك العمليّات، علماً أنّها مضطرة إلى الانتظار يومَين إضافيَّين قبل أن يُسمَح لها بعمليّة سحب جديدة. ونيلّي التي تعمل في القطاع المصرفيّ أمّ لثلاثة أطفال (ابن واحد في الخامسة من عمره وابنتان توأمان في الثالثة)، تخبر أنّ "المبلغ أُنفق بالكامل. كان لا بدّ لي من شراء حاجيات ضروريّة للأولاد. نحن كبالغين نستطيع تدبير أمورنا بأيّ طريقة كانت، في المأكل والمشرب والملبس وغيرها، أمّا الأمر فيختلف كليّاً بالنسبة إلى الصغار". لكنّها تؤكّد أنّها وزوجها يحاولان "التقشّف" قدر المستطاع، حتى في ما يخصّ أمور أولادهما الثلاثة. وتشير نيلّي إلى أنّه "للشهر الثاني على التوالي، تخلّفنا عن سداد سندات قرض الإسكان"، مؤكدة أنّه "من المستحيل دفعه. راتب زوجي (مهندس معماريّ) خُفّض إلى ربعه في مقابل تقليص ساعات العمل، بالتالي صرت شبه مسؤولة عن كلّ النفقات". إلى جانب سندَي الإسكان الأخيرَين، تخلّف الزوجان الشابان كذلك عن سداد فواتير مختلفة. صاحب مولّد الكهرباء يطالبهما بالمستحقّ عليهما، غير أنّه لن يتّخذ أيّ "إجراءات عقابيّة" بحقّهما من قبيل قطع التيّار عن منزلهما، "فالجميع في الحالة نفسها. جيراننا كذلك يتخلّفون عن سداد فواتير عدّة".

من جهته، تمكّن يامن مخايل، وهو عازب يعمل في القطاع الصحيّ، من سحب خمسمائة دولار في الثاني من الشهر الجاري، على أن يسيّر بهذا المبلغ أموره لمدة أسبوع. هو لن يتمكّن من توفير قيمة سنداته للإبقاء على سيولة في متناوله، فسند قرض السيّارة وكذلك سند القرض الشخصيّ يُقتطعان مباشرة من حسابه عند تحويل راتبه. يقول: "أظنّ أنّ الأمر في مصلحتي. هكذا، لن أراكم على نفسي ديوناً إضافيّة عبر تأجيل سنداتي"، غير أنّه حسم أمره لجهة عدم سداد رسوم ميكانيك سيّارته. يضيف: "لا شكّ في أنّ مصلحة السير سوف تخفّض الغرامات مع بداية العام المقبل. ربّما تكون الأزمة الاقتصاديّة قد انفرجت حينها". من جهة أخرى، يتوجّب على يامن سداد بدل إيجار منزله، أي ثمانمائة دولار. ويلفت إلى أنّه حاول "إقناع المالك بسداد المبلغ بالليرة اللبنانيّة. في الإمكان سحبها بسهولة، وليس كما هي الحال بالنسبة إلى الدولار. لكنّه رفض، إلا إذا احتُسب سعر الصرف كما في السوق السوداء، أي ألفا ليرة لبنانيّة على أقلّ تقدير للدولار الأميركيّ الواحد. وهو أمر غير منطقيّ. بالتالي، اتّفقنا على ثلاث دفعات بالدولار".



أمّا رانيا حافظ فتعبّر عن سخطها الشديد. سنداتها وفواتيرها كثيرة، بقدر مسؤوليّاتها. مصرفها سمح لعملائه بسحب خمسمائة دولار أسبوعياً، "لكنّ ذلك لا يكفيني". وتشرح أنّ "والدتي في حاجة إلى علاج دائم، ومالك المنزل يصرّ على تقاضي بدل الإيجار دفعة واحدة، وثمّة متطلّبات أخرى تستوجب كذلك الدفع نقداً وبالدولار". وليزداد الطين بلّة، اضطرّت الشابة التي تعمل في شركة برمجيّات إلى سداد سند كبير مستحقّ عليها في مصرف آخر، غير ذلك الذي وطّنت فيه راتبها. وتقول: "أجرينا تحويلاً مصرفيّاً من حسابي هنا إلى حسابي هناك، فاستوجب الأمر عمولة لم أكن أتوقّعها. المصارف تحتجز أموالنا وتمنعنا من التصرّف بها بحسب حاجتنا، وفوق ذلك كلّه ترتّب علينا مبالغ ماليّة إضافيّة تحت مسميّات وأخرى". وفي ما يشبه واقعيّة وليس تشاؤماً، بحسب ما تؤكّد، تتساءل: "وماذا بالنسبة إلى الغد؟".