أمور كثيرة لم تتبدل في سيرة مهرجان دبي السينمائي، المؤسَّس عام 2004 بطموحات كبيرة جداً، تنتمي إلى ثقافة الطموحات المختلفة التي تمتلكها إمارة دبي في تقديم نفسها للعالم، وفي محاولاتها الدائمة فرض وجود ما لها في المشهد الدولي.
لم تكن السينما حاضرة في الثقافة تلك قبل 2004. لكن، في مقابل هذا، ما تفعله إمارة أبوظبي حينها مختلف: عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدّة منخرطة في اشتغال ثقافي ـ فني متنوّع، يتطوّر لاحقاً إلى عناوين أساسية تجعل الحيز الجغرافي مكاناً لتواصل ما مع العالم عبر الإبداع. "المجمّع الثقافي" السابق يؤدّي وظيفة أساسية وناجحة في المجال هذا، قبل تحوّله إلى "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث". المجمّع نفسه يفتح أبوابه أمام اختبار سينمائي متواضع، يحمل اسم "مسابقة أفلام من الإمارات". اختبار يتطوّر عاماً تلو آخر، بدءاً من مطلع الألفية الثالثة، وينتقل من المساحة الإماراتية المتواضعة والصغيرة الحجم للفيلم المحليّ، إلى الجغرافيا الخليجية الأوسع، بفضل جهود كبيرة يقوم بها السينمائيّ الإماراتي مسعود أمرالله آل علي، الذي يعتبره إماراتيون وخليجيون عديدون "الأب الروحي" للسينما الإماراتية والخليجية معاً.
اقرأ أيضا: "دبي السينمائي": فائض في العروض والقضايا
روايات تأسيسية
أمرالله آل علي نفسه ينتقل من "مسابقة أفلام من الإمارات" إلى الإدارة الفنية لمهرجان وليد حديثاً حينها، يحمل اسم إمارة دبي، ويتوجّه إلى العالم كلّه، فيتّخذ منذ البداية صفة "دوليّ". التعبير الأنسب لمعنى تأسيس المهرجان، يرد في كلمة لرئيسه عبدالحميد جمعة، الذي يقول إن التأسيس نابعٌ من "منطلق أن السينما حينها (أي عند تأسيس المهرجان) قد باتت وسيطاً يتمتّع بنفوذ كبير، يمكّنها من مدّ الجسور بين الثقافات". لكن التعبير المبطّن يبقى في مكان آخر: تريد دبي أن تمتلك كل وسيلة ممكنة لتثبيت حضور دولي في المجالات كافة، والسينما جزءٌ أساسيّ يجمع الترفيهي ـ الشعبي بالثقافي ـ النخبوي، ويتيح للإمارة أن تكون مؤثّرة في بعض المسارات الاقتصادية للفن السابع، المحلي والخليجي والعربي أولاً وأساساً. بين التعبيرين هذين، "يولد" المهرجان، ويبلغ في عام 2015 دورته الثانية عشرة (9 ـ 16 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، ويتحوّل من مجرّد ترجمة عادية لتنظير ثقافي ـ جمالي إلى عامل في
صناعة جزء من السينما العربية، عبر تمويل وإنتاج يأتيان بفضل "صندوق إنجاز"، الذي يتأسّس في عام 2009 بهدف "دعم الأفلام في مرحلتي الإنتاج وما بعد الإنتاج، علماً أنه يدعم مشاريع عربية في مرحلة ما بعد الإنتاج، بينما اهتمامه بالسينما الخليجية معقودٌ على التمويل". بالإضافة إليه، هناك "السوق السينمائية" و"الملتقيات/ المنتديات" المؤهّلة، بطريقة أو بأخرى، لتأدية دور تمويلي ـ إنتاجيّ لسينما عربية شبابية، تشهد الأعوام القليلة الفائتة على الأقلّ على بلوغها مرتبة سينمائية تشي بنهضة إبداعية.
أما القول إن شيئاً لم يتبدّل في الدورة الـ 12 للمهرجان، فنابعٌ من أمور عديدة يلاحظها متابعوه: البرمجة موزّعة على مسابقات رسمية وعروض موازية لها؛ منتديات/ ملتقيات/ سوق سينمائية؛ "صندوق إنجاز"؛ سهرات ليلية يومية؛ إلخ. الأمكنة (ميناء السلام/ أرينا، مدينة جميرا، "مول الإمارات") هي نفسها أيضاً، وهذا يُحسب للمهرجان، كثباته على موعد واحد كل عام (منتصف ديسمبر/ كانون الأول). عدم التبدّل كامنٌ في الشكل، الذي يرتكز على مضمون متشابه، كأن يكون دعم السينما أساسيّ، وكأن تكون العروض الخاصّة بأفلام عربية وغربية جزءاً أساسياً في مفهوم المهرجان، الذي يُلغي ـ قبل 3 دورات سابقة ـ مسابقات خاصّة بأفلام آسيوية وأفريقية، بعد أعوام مديدة من إتاحة فرص مهمّة أمامها ـ وأمام ضيوف المهرجان وزوّاره ـ لعرضها ومناقشتها واكتشاف بعض خفاياها وأسئلتها. والإلغاء متأتٍ من رغبة في تقليص الميزانية السنوية، التي يُقال حالياً إنها باقية لغاية عام 2018.
صحيحٌ أن هذا كلّه عاديّ، إن لم يكن مطلوباً، لأن الشكل ضروريّ في علاقته بجمهور لم يكبر لغاية الآن. فالاعتماد على مشاهدين محتملين من الإماراتيين أولاً لا يزال كبيراً، وإن لم يتوصّل المهرجان إلى تفعيل علاقته بهم، وتحريضهم على التعامل مع السينما كفعل ثقافي ـ فني ـ إبداعي، يتكامل وكونها ترفيهية ـ تجارية ـ استعراضية أيضاً. هذا يُحتّم على إدارة المهرجان ترتيب مواعيد العروض المفتوحة أمام الجميع في أوقات بعد الظهر فقط، في محاولة "يائسة" لجذبهم وحثّهم على المجيء إلى الصالات ومشاهدة الأفلام والتمتّع بمعنى الصورة وجمالياتها.
تساؤلات ومآزق
المأزق الثاني كامنٌ في معنى المهرجان بحدّ ذاته: هل ينجح المهرجان، فعلياً، في دعم السينما العربية، مالياً (تمويلاً أو إنتاجاً أو مشاركةً في الإنتاج أو تسهيلاً له) ومعنوياً (تنظيم لقاءات مع منتجين/ مموّلين، بحثٌ عن أسواق ومهرجانات تولي أهمية للسينما العربية هذه، إلخ.)؟ غالب الظنّ أن "نهضة" ما للسينما العربية ـ الشبابية تحديداً ـ مرتبطةٌ بالإنجازات التي يُحقّقها المخرجون أنفسهم، وبالرؤى الثقافية والجمالية والفنية الخاصّة بوعيهم المعرفي ومخيّلتهم الفنية، في حين أن المال الضروري جداً في كلّ صناعة يُساهم في ترجمة حاجات السينمائيّ ورغباته وأحلامه وهوسه ومزاجه، التي تبقى كلّها أساسية في كل إبداع.
المأزق الثالث كامنٌ في آلية الدعوات الموجّهة إلى ضيوف عرب وأجانب، وفي كيفية اختيار مُكرَّمين، وفي الطريقة المعتَمَدة في إصدار نشرة يومية خاصّة بالمهرجان. فالغلبة واضحة للمدعوين المصريين، إذ تعتمد إدارة مهرجان دبي على "نجومٍ" لديهم شعبية كبيرة في دولة الإمارات كما في دول الخليج العربي، ما يعني أن حضورهم حفلتي الافتتاح (خصوصاً) والختام مطلوبٌ بشدّة، ظنّاً من المسؤولين بأن حضور هؤلاء كفيلٌ بتحريض الإماراتيين على المشاركة في مهرجان يحمل اسم الإمارة الأهمّ على المستوى الاقتصادي ـ التجاري ـ المالي (قبل صدمة الانهيار الاقتصادي في عام 2008، وبعدها أيضاً وإن بمستوى أقلّ بقليل مما قبلها). أما اختيار المُكرَّمين، فغالباً ما ينبثق من عشوائية ما: صحيحٌ أن لائحة الأسماء المختارة مليئة بمن يرغب المهرجان ومسؤولوه ورعاته ومموّلوه في أن يكون هؤلاء موجودين في كل دورة من دوراته السنوية. وصحيحٌ أن فعل التكريم بحدّ ذاته مبنيّ على إمكانية حضور هذا الفنان أو تلك الفنانة؛ لكن المسألة تكشف عن وهنٍ واضح، عندما يتمّ تكريم "نجوم" منتمين
إلى الصفّين الثاني والثالث، ممن لا يملك تأثيراً، أو لم يعد فاعلاً في المشهد الدولي.
في المقابل، فإن الفنان ـ النجم، المنتمي إلى أي فئة، يزور دبي ساعات قليلة، ويُشارك في حفلة التكريم، ويلتقي مسؤولي المهرجان والمشرفين الرسميين عليهم وعليه، ويتقاضى أجراً يُقال إنه باهظٌ أحياناً، ويعبّر عن سروره في زيارة الإمارة، ويُكيل لها مديحاً تلو آخر في فقرات قليلة من تعليقاته الموزّعة على منبر الاحتفال، أو في بعض الحوارات/ اللقاءات الصحافية/ الإعلامية. هذا متداول في أكثر من مهرجان سينمائيّ يُقام في مدن عربية مختلفة، كمراكش والقاهرة ودمشق وبيروت مثلاً. لكن هذا يستدعي أيضاً طرح سؤال المغزى من كلام مسطّح وعادي ومتداول لفنان لم يزر المدينة كما يجب، ولم يتعرّف إلى وجوهها وحالاتها وأحوالها وخفاياها، ولم يُشاهد أياً من أفلام أبنائها والمنتمين إليها.
أما بالنسبة إلى المطبوعات، فهي ـ وإن يكن عددها قليلا للغاية أصلاً ـ تبقى دون المستوى المطلوب في نشرات أو مطبوعات صادرة عن مهرجان سينمائي يريد تأدية دور سينمائيّ فاعل في المشهد الدولي. فبالإضافة إلى تغيير مسؤولي "النشرة اليومية" من دورة إلى أخرى، إلاّ أن تشابهاً أساسياً يجمع المسؤولين في إطار واحد: غياب محترفي لغة وتحرير مادة، وانعدام كلّ رؤية إبداعية في التبويب والتصميم والطباعة، واستسهال في كتابة تتطلّب جهداً وصدقاً وشفافية، وإنْ تهتمّ المنشورات هذه في الترويج للمهرجان وللأفلام المختارة وللبرامج والضيوف وآلية العمل.
احتفال ملتبس
يتوضّح هذا في الاحتفال بالدورة الـ 10 لـ "مهرجان دبي السينمائيّ الدولي" في عام 2013. ذلك أن إدارته ترتأي، حينها، إصدار كتاب يُقدّم لقارئ مهتم أفضل 100 فيلم عربي تمّ تحقيقها منذ ولادة الفن السابع في العالم العربي. فعلى الرغم من استلهام المسألة هذه من طريقة عمل مؤسّسات أجنبية مختلفة، إلاّ أن المأزق كامنٌ في أن بعض مختاري الأفلام هذه يعمل في الإخراج أو الكتابة أو التقنيات المختلفة، فإذا به يختار عنواناً أو أكثر من الـ "فيلموغرافيا" الخاصّة به. الجانب المهمّ في الكتاب متعلّق بدور بعض النقاد العرب، الذين يُقدّمون أفلاماً عربية مختلفة، فإذا ببعض التقديم هذا مبنيّ على سوية لغوية وتحليلية وتحريرية للمادة. أما شكل الكتاب فلا يليق إطلاقاً لا بالسينما ولا بالكتابة ولا بكلّ ما يتعلّق بلغة الصورة، أو بكيفية صناعة كتاب سينمائيّ.
لم يشتهر "مهرجان دبي السينمائيّ الدولي" باهتمامه بمطبوعات سينمائية، على غرار ما يفعله مهرجانا دمشق والقاهرة. وهذا عائدٌ، ربما، إلى رغبة مسؤوليه في الانصراف إلى أفعالٍ يرونها أفضل في دعم السينما، عبر إيجاد تمويل أو إنتاج أو شراكة في الإنتاج. بهذا المعنى، يؤدّي المهرجان وظيفة عملية، بدلاً من إضاعة الوقت في إصدار مطبوعات لا تُقرأ، وكتب تبقى في غرف الضيوف، كما يحصل ـ سابقاً وحالياً ـ في مهرجاني دمشق والقاهرة.
بين إيجابيات قليلة وسلبيات أكثر بقليل، يكافح "مهرجان دبي السينمائي الدولي" من أجل تأكيد حضوره في الجغرافيا الخليجية، خصوصاً بعد توقّف "مهرجان أبوظبي السينمائي" بدءاً من دورة عام 2015. يُكافح من أجل أن يكون للإمارة فضاء سينمائي، لا شكّ في أن جزءاً منه مهمّ وضروريّ على مستوى دعم نتاجات سينمائية عربية مختلفة.
(كاتب لبناني)
لم تكن السينما حاضرة في الثقافة تلك قبل 2004. لكن، في مقابل هذا، ما تفعله إمارة أبوظبي حينها مختلف: عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدّة منخرطة في اشتغال ثقافي ـ فني متنوّع، يتطوّر لاحقاً إلى عناوين أساسية تجعل الحيز الجغرافي مكاناً لتواصل ما مع العالم عبر الإبداع. "المجمّع الثقافي" السابق يؤدّي وظيفة أساسية وناجحة في المجال هذا، قبل تحوّله إلى "هيئة أبوظبي للثقافة والتراث". المجمّع نفسه يفتح أبوابه أمام اختبار سينمائي متواضع، يحمل اسم "مسابقة أفلام من الإمارات". اختبار يتطوّر عاماً تلو آخر، بدءاً من مطلع الألفية الثالثة، وينتقل من المساحة الإماراتية المتواضعة والصغيرة الحجم للفيلم المحليّ، إلى الجغرافيا الخليجية الأوسع، بفضل جهود كبيرة يقوم بها السينمائيّ الإماراتي مسعود أمرالله آل علي، الذي يعتبره إماراتيون وخليجيون عديدون "الأب الروحي" للسينما الإماراتية والخليجية معاً.
اقرأ أيضا: "دبي السينمائي": فائض في العروض والقضايا
روايات تأسيسية
أمرالله آل علي نفسه ينتقل من "مسابقة أفلام من الإمارات" إلى الإدارة الفنية لمهرجان وليد حديثاً حينها، يحمل اسم إمارة دبي، ويتوجّه إلى العالم كلّه، فيتّخذ منذ البداية صفة "دوليّ". التعبير الأنسب لمعنى تأسيس المهرجان، يرد في كلمة لرئيسه عبدالحميد جمعة، الذي يقول إن التأسيس نابعٌ من "منطلق أن السينما حينها (أي عند تأسيس المهرجان) قد باتت وسيطاً يتمتّع بنفوذ كبير، يمكّنها من مدّ الجسور بين الثقافات". لكن التعبير المبطّن يبقى في مكان آخر: تريد دبي أن تمتلك كل وسيلة ممكنة لتثبيت حضور دولي في المجالات كافة، والسينما جزءٌ أساسيّ يجمع الترفيهي ـ الشعبي بالثقافي ـ النخبوي، ويتيح للإمارة أن تكون مؤثّرة في بعض المسارات الاقتصادية للفن السابع، المحلي والخليجي والعربي أولاً وأساساً. بين التعبيرين هذين، "يولد" المهرجان، ويبلغ في عام 2015 دورته الثانية عشرة (9 ـ 16 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، ويتحوّل من مجرّد ترجمة عادية لتنظير ثقافي ـ جمالي إلى عامل في
أما القول إن شيئاً لم يتبدّل في الدورة الـ 12 للمهرجان، فنابعٌ من أمور عديدة يلاحظها متابعوه: البرمجة موزّعة على مسابقات رسمية وعروض موازية لها؛ منتديات/ ملتقيات/ سوق سينمائية؛ "صندوق إنجاز"؛ سهرات ليلية يومية؛ إلخ. الأمكنة (ميناء السلام/ أرينا، مدينة جميرا، "مول الإمارات") هي نفسها أيضاً، وهذا يُحسب للمهرجان، كثباته على موعد واحد كل عام (منتصف ديسمبر/ كانون الأول). عدم التبدّل كامنٌ في الشكل، الذي يرتكز على مضمون متشابه، كأن يكون دعم السينما أساسيّ، وكأن تكون العروض الخاصّة بأفلام عربية وغربية جزءاً أساسياً في مفهوم المهرجان، الذي يُلغي ـ قبل 3 دورات سابقة ـ مسابقات خاصّة بأفلام آسيوية وأفريقية، بعد أعوام مديدة من إتاحة فرص مهمّة أمامها ـ وأمام ضيوف المهرجان وزوّاره ـ لعرضها ومناقشتها واكتشاف بعض خفاياها وأسئلتها. والإلغاء متأتٍ من رغبة في تقليص الميزانية السنوية، التي يُقال حالياً إنها باقية لغاية عام 2018.
صحيحٌ أن هذا كلّه عاديّ، إن لم يكن مطلوباً، لأن الشكل ضروريّ في علاقته بجمهور لم يكبر لغاية الآن. فالاعتماد على مشاهدين محتملين من الإماراتيين أولاً لا يزال كبيراً، وإن لم يتوصّل المهرجان إلى تفعيل علاقته بهم، وتحريضهم على التعامل مع السينما كفعل ثقافي ـ فني ـ إبداعي، يتكامل وكونها ترفيهية ـ تجارية ـ استعراضية أيضاً. هذا يُحتّم على إدارة المهرجان ترتيب مواعيد العروض المفتوحة أمام الجميع في أوقات بعد الظهر فقط، في محاولة "يائسة" لجذبهم وحثّهم على المجيء إلى الصالات ومشاهدة الأفلام والتمتّع بمعنى الصورة وجمالياتها.
تساؤلات ومآزق
المأزق الثاني كامنٌ في معنى المهرجان بحدّ ذاته: هل ينجح المهرجان، فعلياً، في دعم السينما العربية، مالياً (تمويلاً أو إنتاجاً أو مشاركةً في الإنتاج أو تسهيلاً له) ومعنوياً (تنظيم لقاءات مع منتجين/ مموّلين، بحثٌ عن أسواق ومهرجانات تولي أهمية للسينما العربية هذه، إلخ.)؟ غالب الظنّ أن "نهضة" ما للسينما العربية ـ الشبابية تحديداً ـ مرتبطةٌ بالإنجازات التي يُحقّقها المخرجون أنفسهم، وبالرؤى الثقافية والجمالية والفنية الخاصّة بوعيهم المعرفي ومخيّلتهم الفنية، في حين أن المال الضروري جداً في كلّ صناعة يُساهم في ترجمة حاجات السينمائيّ ورغباته وأحلامه وهوسه ومزاجه، التي تبقى كلّها أساسية في كل إبداع.
المأزق الثالث كامنٌ في آلية الدعوات الموجّهة إلى ضيوف عرب وأجانب، وفي كيفية اختيار مُكرَّمين، وفي الطريقة المعتَمَدة في إصدار نشرة يومية خاصّة بالمهرجان. فالغلبة واضحة للمدعوين المصريين، إذ تعتمد إدارة مهرجان دبي على "نجومٍ" لديهم شعبية كبيرة في دولة الإمارات كما في دول الخليج العربي، ما يعني أن حضورهم حفلتي الافتتاح (خصوصاً) والختام مطلوبٌ بشدّة، ظنّاً من المسؤولين بأن حضور هؤلاء كفيلٌ بتحريض الإماراتيين على المشاركة في مهرجان يحمل اسم الإمارة الأهمّ على المستوى الاقتصادي ـ التجاري ـ المالي (قبل صدمة الانهيار الاقتصادي في عام 2008، وبعدها أيضاً وإن بمستوى أقلّ بقليل مما قبلها). أما اختيار المُكرَّمين، فغالباً ما ينبثق من عشوائية ما: صحيحٌ أن لائحة الأسماء المختارة مليئة بمن يرغب المهرجان ومسؤولوه ورعاته ومموّلوه في أن يكون هؤلاء موجودين في كل دورة من دوراته السنوية. وصحيحٌ أن فعل التكريم بحدّ ذاته مبنيّ على إمكانية حضور هذا الفنان أو تلك الفنانة؛ لكن المسألة تكشف عن وهنٍ واضح، عندما يتمّ تكريم "نجوم" منتمين
في المقابل، فإن الفنان ـ النجم، المنتمي إلى أي فئة، يزور دبي ساعات قليلة، ويُشارك في حفلة التكريم، ويلتقي مسؤولي المهرجان والمشرفين الرسميين عليهم وعليه، ويتقاضى أجراً يُقال إنه باهظٌ أحياناً، ويعبّر عن سروره في زيارة الإمارة، ويُكيل لها مديحاً تلو آخر في فقرات قليلة من تعليقاته الموزّعة على منبر الاحتفال، أو في بعض الحوارات/ اللقاءات الصحافية/ الإعلامية. هذا متداول في أكثر من مهرجان سينمائيّ يُقام في مدن عربية مختلفة، كمراكش والقاهرة ودمشق وبيروت مثلاً. لكن هذا يستدعي أيضاً طرح سؤال المغزى من كلام مسطّح وعادي ومتداول لفنان لم يزر المدينة كما يجب، ولم يتعرّف إلى وجوهها وحالاتها وأحوالها وخفاياها، ولم يُشاهد أياً من أفلام أبنائها والمنتمين إليها.
أما بالنسبة إلى المطبوعات، فهي ـ وإن يكن عددها قليلا للغاية أصلاً ـ تبقى دون المستوى المطلوب في نشرات أو مطبوعات صادرة عن مهرجان سينمائي يريد تأدية دور سينمائيّ فاعل في المشهد الدولي. فبالإضافة إلى تغيير مسؤولي "النشرة اليومية" من دورة إلى أخرى، إلاّ أن تشابهاً أساسياً يجمع المسؤولين في إطار واحد: غياب محترفي لغة وتحرير مادة، وانعدام كلّ رؤية إبداعية في التبويب والتصميم والطباعة، واستسهال في كتابة تتطلّب جهداً وصدقاً وشفافية، وإنْ تهتمّ المنشورات هذه في الترويج للمهرجان وللأفلام المختارة وللبرامج والضيوف وآلية العمل.
احتفال ملتبس
يتوضّح هذا في الاحتفال بالدورة الـ 10 لـ "مهرجان دبي السينمائيّ الدولي" في عام 2013. ذلك أن إدارته ترتأي، حينها، إصدار كتاب يُقدّم لقارئ مهتم أفضل 100 فيلم عربي تمّ تحقيقها منذ ولادة الفن السابع في العالم العربي. فعلى الرغم من استلهام المسألة هذه من طريقة عمل مؤسّسات أجنبية مختلفة، إلاّ أن المأزق كامنٌ في أن بعض مختاري الأفلام هذه يعمل في الإخراج أو الكتابة أو التقنيات المختلفة، فإذا به يختار عنواناً أو أكثر من الـ "فيلموغرافيا" الخاصّة به. الجانب المهمّ في الكتاب متعلّق بدور بعض النقاد العرب، الذين يُقدّمون أفلاماً عربية مختلفة، فإذا ببعض التقديم هذا مبنيّ على سوية لغوية وتحليلية وتحريرية للمادة. أما شكل الكتاب فلا يليق إطلاقاً لا بالسينما ولا بالكتابة ولا بكلّ ما يتعلّق بلغة الصورة، أو بكيفية صناعة كتاب سينمائيّ.
لم يشتهر "مهرجان دبي السينمائيّ الدولي" باهتمامه بمطبوعات سينمائية، على غرار ما يفعله مهرجانا دمشق والقاهرة. وهذا عائدٌ، ربما، إلى رغبة مسؤوليه في الانصراف إلى أفعالٍ يرونها أفضل في دعم السينما، عبر إيجاد تمويل أو إنتاج أو شراكة في الإنتاج. بهذا المعنى، يؤدّي المهرجان وظيفة عملية، بدلاً من إضاعة الوقت في إصدار مطبوعات لا تُقرأ، وكتب تبقى في غرف الضيوف، كما يحصل ـ سابقاً وحالياً ـ في مهرجاني دمشق والقاهرة.
بين إيجابيات قليلة وسلبيات أكثر بقليل، يكافح "مهرجان دبي السينمائي الدولي" من أجل تأكيد حضوره في الجغرافيا الخليجية، خصوصاً بعد توقّف "مهرجان أبوظبي السينمائي" بدءاً من دورة عام 2015. يُكافح من أجل أن يكون للإمارة فضاء سينمائي، لا شكّ في أن جزءاً منه مهمّ وضروريّ على مستوى دعم نتاجات سينمائية عربية مختلفة.
(كاتب لبناني)