الأسبوع الأخير الذي يسبق شهر رمضان، هو بالنسبة للسوريّين أسبوع الاستعداد لاستقبال الشهر الكريم. وتعدّ مائدة الإفطار السوريّة من أشهى ما يقدّمه المطبخ العربي. فهي اختصار لإبداع هذا المطبخ تاريخياً. أمّا وجبات الفقراء في رمضان، فلا تختلف عن وجبات الأغنياء إلا بنوع اللحوم التي تحتويها وكميتها. ولأن الصائم لا يستطيع أن يبدأ إفطاره بوجبات دسمة، ابتدع المطبخ الرمضاني السوري مجموعة هائلة من المقبلات والسلطات. ومع آذان المغرب، يبدأ الإفطار مع كأس العرق سوس أو التمر الهندي، المشروبان المشهوران في هذا الشهر، لينتهي مع قائمة حلويات سوريّة غنيّة. لكن الحرب التي يشنّها النظام على شعبه قلبت موازين المجتمع السوري.
هذا شهر رمضان الثالث الذي يمرّ على السوريّين مذ أطلقوا ثورتهم. وكما سابقَيه، من المتوقّع أن تعلو أصوات القذائف على صوت مدفع الإفطار. في السنتَين الماضيتَين، تقلصت حالة الابتهاج إلى أن وصلت إلى ما هي عليه. رمضان بالنسبة إلى الدمشقيّين لم يعد أكثر من شهر عبادة. طقوس الفرح والطعام باتت مجرّد ذكريات. فمن النادر أن تجد بيتاً ليس فيه جريح أو شهيد أو مهجّر أو هارب. يسأل الدمشقي الخمسيني أبو مصطفى: "كيف للفرح أن يدقّ أبواب بيوتنا؟"، مضيفاً "فليكن الله في عون الناس. أسعار المواد الغذائيّة مرتفعة جداً وسترتفع أكثر مع بدء الشهر الكريم بسبب استغلال التجار".
لكن وبحسب ما يبدو، فإن حال أهالي ريف دمشق هي الأسوأ في استقبال رمضان. ففي مخيّم اليرموك المحاصر منذ مارس/آذار 2013، يقترب الشهر الكريم حاملاً الكثير من الكآبة ومن الحزن والأسى على من بقي صامداً فيه. فالظروف أثرت سلباً على أجوائه..، لا تجهيزات ولا استعدادات، غير أن يُحضّر الشخص نفسه لصوم نهار طويل.
أنور هو أحد قاطني ما تبقى من المخيّم. يتحدّث إلى "العربي الجديد" عن تحضيرات رمضان متهكماً، فيقول: "الحمدلله، ربّ ضارة نافعة! هذه السنة وبسبب الحصار الخانق المفروض على المخيّم من قبل قوات النظام وما شهدناه طوال السنة من مآسي، أصبح صيام نهار رمضان مثل تنكيش الأسنان. فقد قمنا بدورة تدريبيّة مسبقة بفضل قواتنا المسلحة".
ويعتمد سكان المخيم اليوم على بعض المساعدات الغذائيّة الدوليّة التي تأتي في صناديق وعلب كرتونيّة يطلق عليها أهالي المخيم اسم معونات "الذل والحياة"، وهي تضم بعض الأصناف والمواد الثابتة. لذا فإن قائمة الطعام ستكون متشابهة طوال أيام شهر رمضان، إذ إن وجبتَي الإفطار والسحور ستعتمدان على بعض الحبوب والبقوليات من برغل وعدس وشعير وأرزّ وبعض الحشائش والخضروات التي زرعها الأهالي مؤخراً، معرّضين حياتهم لخطر القنص من عناصر قوات النظام المتمركزين على أطراف المخيّم ومداخله.
رمضان حلب
اعتاد أهالي حلب على تناول مأكولات خاصة برمضان خلال هذا الشهر. ولعل أبرزها ما يسمى شعبياً بـ"المعروك" وهو نوع من المعجنات الخفيفة، ناهيك عن المشروبات الرمضانيّة والحلويات التي يستعدّ لها الحلواني، وقد استنفر كل طاقات مصنعه لهذا الشهر، من بقلاوة ومبرومة وغيرهما. لكن هذه قد تكون الآن حلماً بالنسبة إلى الغالبيّة هنا، إذ يصل سعر الكيلوغرام الواحد من هذه الأصناف إلى ألفَي ليرة سوريّة، وهو مبلغ ليس بمتناول اليد بالإضافة إلى أن أغلب نقاط بيعها السابقة هي مناطق اشتباك الآن، مثل دوار باب الحديد وحلب القديمة.
"تأمين الخبز أهم!" هذا ما تقوله الحاجة فاطمة الستينيّة ووالدة شهيد ومعتقل. تضيف "رمضان شهر كريم يهلّ فيه الخير على الفقراء. لكن كل أصحاب الخير تركوا حلب، ومن تبقى هنا هم الفقراء". تتنهّد فاطمة قبل أن تتابع: "وعدني ولدي أن يأتي إلينا من تركيا حيث يعمل مع بداية الشهر. هو معيلنا الوحيد الذي تبقى لنا بعد غياب أخوَيه...، أحدهما شهيد، والثاني انقطعت أخباره قبل عام".
ويشير هنا مسؤول "جمعيّة إيثار الخيريّة" الشيخ زكريا حافظ لـ"العربي الجديد"، إلى أن الجمعيّة سوف تضاعف من كميّة المواد الغذائيّة استعداداً لرمضان. ويعلن عن اعتزام الجمعية على البدء بمشروع وجبة "إفطار مجاهد" وهي وجبة خاصة بالمجاهدين المرابطين على جبهات حلب وريفها.
إلى ذلك، تشهد الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام ارتفاعاً خيالياً في الأسعار. وهذا الغلاء يدفع البعض إلى الاقتصاد في المصروفات. يقول زاهد وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائيّة إن نشاطه التجاري للموسم الرمضاني المقبل سوف يقتصر على بيع "التمر" فقط، متوقعاً تراجع الطلب على العصائر والمشروبات الرمضانيّة، بسبب ارتفاع أسعارها والضائقة الاقتصاديّة التي يعيشها الأهالي. أما انقطاع التيار الكهربائي فيأتي ليزيد الطين بلة، كما يقول الأهالي هنا.
خيم اللجوء... والصيام
يوصف رمضان بأنه شهر "جمعة الأحبّة" حول مائدة الطعام وأوقات صلاة التراويح. لكن السوريّين النازحين والذين لجأوا إلى المخيمات، بغالبيّتهم فقدوا أحبّة لهم. فمنهم من قتل ومنهم من استشهد ومنهم من هو على الجبهات اليوم، مصيره معلّق بين الحياة والموت.
سعيد فتى سوري من مدينة إدلب لجأ وأسرته إلى أحد مخيمات تركيا قبل عامَين هرباً من الحرب الطاحنة في البلاد. هو يقضي يومه في اللعب. وقد اخترع لعبة جديدة في هذه الأيام الصيفيّة، تجلب له الطعام والمتعة في الوقت نفسه. واللعبة هي صيد الفاكهة من على الأشجار الغنيّة الموزعة بكثافة في المدن التركيّة، لكن بطريقته الخاصة. فيخلع حذاءه ويضرب به أغصان الأشجار لتتساقط ثمارها. فيلتقطها بكيسه جالباً إياها إلى عائلته في المخيم.
"مشبّك.. قلبي حبّك"، كلمات ردّدها سعيد ابن الثمانية أعوام. فهو اعتاد في رمضان الفائت على بيع ما ينتجه عمه من تلك الحلوى التي تمدّ الصائمين بالطاقة، متنقلاً تحت الشمس الحارقة بين العربات في مخيّم كلس الحدودي جنوب تركيا.
وهو اليوم يتحضّر لعمل خاص به، إلى جانب بيع العوّام والمشبّك أو لقمة القاضي التي تشتهر بها مدينته في موسم الزيتون، والتي تصنع من عجينة من الطحين أو السميد مع الماء ثم تقلى وتغطّس في القطر. هي حلوى شعبيّة سعرها زهيد. وهو يبيع القطعة بنصف ليرة تركيّة.
أما في ما يتعلق بعمله الخاص، فقد جهّزت له والدته عربة لبيع شراب العرق السوس المصنوع منزلياً. وتقول أم سعيد إن "البطاقة الإلكترونيّة التي تقدّمها الحكومة التركيّة لكل عائلة مشكورة، لم تعد تكفي حاجات أسرة مكوّنة من تسعة أفراد. لذا، لا بدّ من البحث عن مصادر أخرى واستغلال الشهر الكريم".
وتتابع "رمضان اليوم أصبح شهر التحسّر والحزن واسترجاع ذاكرة نكاد ننساها، من أسواق إدلب المشتعلة حتى ساعات الفجر الأولى، وركض الأشخاص في الشوارع قبل دقائق من آذان المغرب، والحالة الاجتماعيّة التي كنا نعيشها خلال شهر من السنة، وصولاً إلى رائحة الأطايب التي تفوح من مداخل الأبنية... اليوم، كل شيء اختفى. لا زينة ولا أجواء احتفاليّة. سيكون كالذي سبقه، شهراً للعبادة والتقرّب من الله والدعاء لنصر الثورة وعودتنا إلى بيوتنا سالمين".
لسوريّي لبنان رمضانهم
في مخيمات اللجوء في لبنان، الزينة وأجواء الاحتفال معدومة. لا نجدها إلا في شوارع المنطقة التي يقع فيها المخيم وحاراتها. فقد غابت عن هؤلاء اللاجئين طقوس شهر رمضان وتقاليده، منذ خروجهم من سورية.
فالأوضاع مأساويّة وهم لا يحصلون إلا على ما تقدّمه لهم المنظمات الأمميّة. لكن وعلى الرغم من ذلك، لا يخلو الأمر من قليل من الأمل والتفاؤل والكثير من الألفة بين اللاجئين في مخيّماتهم. تروي أميمة التي تعيش وعائلتها في أحد تلك المخيمات، أنه في شهر رمضان "يبدأ رب الأسرة هنا منذ الصباح الباكر بالبحث عما يمكن تناوله في خلال الإفطار، حاله حال جميع سكان المخيّم. لكن روح الجماعة موجودة وكذلك نخاف على بعضنا البعض. فنرى هذا يستعير وعاءَ طبخٍ من جاره، وذاك يأخذ قليلاً من الزيت أو السمنة من آخر، وثالث يقوم بالطبخ عند آخر لعدم امتلاكه الغاز".
وعن أجواء الإفطار في المخيم وما بعده، تقول أميمة "قبل الفطور، أرسل ابني إلى خيمة الجيران ومعه صحن مما أعددته. نحن نقدّم ذلك لسببَين، أحدهما أن رمضان هو شهر الخير والكرم، والثاني لأضمن حصولي في يوم آخر على وجبة جاهزة من عندهم، فأوفّر بذلك يوماً على عائلتي". تضيف: "يأتي وقت الإفطار بعد تعب النهار، وأمامنا سفرة متواضعة وفقيرة بمكوناتها. لكن الإحساس هو كأننا أمام خروف مشوي. وينتهي كل شيء عند كلمة الله أكبر والحمد لله. ومن بعدها تبدأ الزيارات بين جيران الخيام أو يصار إلى الاجتماع في الساحة حيث نشرب القهوة والشاي، ويدور الحديث عن أي من المنظمات ستتبرع، أو عن إحدى عوائل المخيم وديونها لأصحاب الأرض التي تقيم عليها خيمتها".
في شهر رمضان، ما يتوفّر يتحكّم بنوعيّة وجبات هؤلاء. كذلك، لا يستطيعون شراء المواد الغذائيّة والحلويات من المحلات الموجودة في المنطقة، ليس بسبب عدم توفّر المال فقط، وإنما لأنهم يرون أنها غير "جيّدة" مردّدين "كل شي بسورية أحلى وأطيب". فالحرب قلبت موازين الحياة بالنسبة إليهم 180 درجة. كل شيء اختلف.. المكان والظروف والأجواء والطعام، مع القليل من التفاؤل والكثير من الخوف والقلق والحرمان.