رماح غريب: لماذا ضاع الحوش من العمارة العربية؟

03 مايو 2019
منذ مئة عام بدأ ضياع الحوش (Getty)
+ الخط -
منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ العالم العربي يتعرض لتأثيرات واسعة من الاتجاهات الحضرية والمعمارية الأوروبية، وتراجعت التقاليد والهوية المعمارية والحرف اليدوية.

أحد أبرز المعالم التي ضُربت في العمارة العربية (والإسلامية في العموم)، الفناء أو الحوش. وهذا موضوع يبحثه رماح غريب، الأستاذ المساعد في التصميم الحضري والعمارة في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة، ضمن انشغاله بالبحث والنشر في التراث العمراني، والتصميم والتجديد الحضريين.

خلاصات غريب في هذا البحث، قدمها خلال محاضرته في متحف الفن الإسلامي، مساء الثلاثاء. ووفقاً له فإن تأثير العولمة وتغيير نمط الإسكان ونظم التخطيط العمراني للمدن ومعايير التصميم المعماري، نجم عنه اختفاء الحوش من العمارة.

ولكن قبل الوصول إلى دول الخليج العربي التي تستورد تصميمات العمارة العصرية المعولمة، وتتضارب مع الثقافة المحلية، يشير غريب إلى حملة التغيير الكبرى التي طاولت المدن العربية منذ الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر بين 1863 حتى 1879.

يشير هنا إلى التصميمات الغربية التي اقتحمت القاهرة على يد الخديوي، وأسست ما بات يعرف بالقاهرة الخديوية، وهي التي تضم ميدان التحرير، والمتحف، وغاردن سيتي وغيرها.

الأمر بالنسبة إليه يتعلق أولاً بالتخطيط العمراني للمدينة. فقد بدأ تقسيم القطع العمرانية بمقاييس محددة، دون الأخذ بالاعتبار احتياجات المنزل للفناء.

ما الفناء؟ وما الذي يعنيه بوصفه قيمة معمارية واجتماعية؟

إنه جوهر البيت -يقول- والمكان الذي يربط العالم الخارجي للمنزل بعالمه الداخلي مع الحفاظ على خصوصية الأسرة. المكان الذي يربط الفراغات بعضها ببعض، ويخلق طاقة من التفاعلات بين أركان المنزل في فضاء مفتوح، مرتبط بالطبيعة والجو، والخضرة، والتنوع من حيث الشكل والحجم.

مع فقدان الحوش، يلاحظ غريب كيف نبتت البلكونات لمحاولة الوصول إلى منفذ هواء، وفي بعض الأحيان لا توجد بلكونات، فتجد الناس واقفين بلصق الشبابيك، بحثاً عما يذكر بالحوش الذي أضعناه، حتى صار بعيداً كباقي الوشم في ظاهر الأرض.

غريب: الفناء جوهر البيت (العربي الجديد)

بل إن فكرة الشباك في التصميمات المستوردة، تبدو طريفة أحياناً في منطقتنا. فنحن نؤسس الشباك في الجدار. الشباك الذي عليه أن ينفتح، كيما يجلب لك الهواء، يفتحه جارك المقابل لك، وهذا يكشف خصوصيتك. ما العمل؟ نبني شبابيك ضمن تصميمات معمارية لا تتفق مع ثقافتنا، ثم نجعلها بلا وظيفة. أو تكون وظيفة الشباك ألا ينفتح، حسبما يشير.

في رد على سؤال لـ"العربي الجديد"... ما الذي تقترحه؟

يقول: "أحفز متخذي القرار على اتباع التوسع العمراني الأفقي بدلاً من الرأسي. لماذا؟ لأنك أفقياً تفسح لإعادة إحياء الفناء الداخلي بما يخفض استخدامات شبكة الطرق والصرف وباقي شبكات التغذية والخدمية.

لاحظ الكثافة العالية من الحركة والسيارات، في المدن التي تصعد فيها الأبراج. لو تخيلنا الشكل العمراني الأفقي، لن نشعر بهذه الكثافة. نحن محاصرون بالتنظيم العمراني، ولا يجوز أن نفكر بالتصميم العمراني بعيداً عن التصميم المعماري، وبينهما اختلاف جذري.

بيت صيفي على شط الإسكندرية بعيداً عن معايير البناء داخل المدينة (فيسبوك)

المعماري يهتم بالمنشأة وتصميمها الداخلي واحتياجاتها، أما العمراني فينشغل بالأبنية، وكيفية إدارة علاقتها مع بعضها البعض في الحيز العام. والحال أننا استوردنا نموذج المدينة الأوروبية في التخطيط العمراني، ولم نحفل بالتصميم المعماري للوحدة السكنية، الذي سيذعن لمعايير مستوردة، لا تلبي حاجتنا الثقافية والاجتماعية".

ولسائل أن يسأل: ماذا عن ضيق المساحة، والاضطرار إلى البناء الرأسي؟ ويجيب "من قال لا توجد مساحة؟ إن السؤال المركزي: لماذا ربطت نفسي في تصميم المدن بوصفه مقدساً لا يتغير، منذ الخديوي إسماعيل حتى اليوم؟

يذهب رماح غريب إلى موضوع المعايير، التي تخص الوحدة السكنية. فيقول إن فكرة خصم مترين حول المنزل (مثلاً) والجار يخصم مترين، فيصبح الفاصل بينهما أربعة أمتار. هذه معايير تبدو ثابتة لا تتحرك، ومستوردة أصلاً من بيئات بيوتها خشبية. ولدى وقوع حريق، استحدثت هذه الارتدادات، حتى تمنع انتقال الحريق بسرعة إلى البيوت المجاورة.

هذه الارتدادات التي تمثل 40% من البيت، عنت أول ما عنت ضياع الحوش، كما أنها لم تعط أهمية لحقوق الجيران في الخصوصية. وإذا أردنا استعادة فناء المنزل، الذي تتوافر فيه إمكانية بناء شبابيك وفتحها على الداخل، لا الخارج، علينا تعديل فكرنا العمراني، ومعايير البناء، وتدريب المعماريين على ذلك.

فهذا المعماري عبد الواحد الوكيل (1943-) الذي نال عام 1980 جائزة الآغا خان للعمارة، عن تصميمه لبيت حلاوة على شاطئ العجمي خارج الإسكندرية، بنى تحفة معمارية، لعائلة موسرة، بما في هذه التحفة من الحوش، والفراغات والإضاءة الطبيعية التي تنزل فيها، ولكن أين؟ في مصيف خارج المدينة. ولو بناه داخلها لأذعن للمعايير الهندسية والعمرانية داخل الإسكندرية.

إحدى الحاضرات من المغرب العربي، بعد طرح سؤالها، توجه إليها غريب بالقول إنه يغبط الدول المغاربية، فهي لم تتأثر كثيراً بهذه التغيير، الذي وقع في المشرق، ولم تفتح الباب مشرعاً لاستيراد النماذج المعمارية الجاهزة، لافتاً إلى أن القاهرة وقد شهدت أول التحولات الكبرى أواخر القرن التاسع عشر، أنتجت مع جاراتها في بلاد الشام عدداً كبيراً من المهندسين، الذين جاءوا فيما بعد بأفكارهم، وطبقوها في الخليج، ومدنه الصاعدة، بعد ظهور النفط.

تناول غريب نموذجاً مشهوراً في العمارة، فيما يخص فناء المنزل موضوع المحاضرة، وهو حسن فتحي (1900- 1989). فهو -كما يشرح- سعى إلى إحياء العمارة التقليدية، مع إضافة نظم الخدمات العصرية، بمعايير هندسية منضبطة، تضمن إعادة إحياء الفناء.

لكن السؤال؟ لمن توجه فتحي بمشروعه المعروف بمنجزه الأبرز "عمارة الفقراء"؟ الجواب: للفقراء، نظرياً، لكنه في الخاتمة ذهب إلى علية القوم.

مبيناً أن هذه البيوت التي عمرت في مشروع قرية القرنة بالأقصر، لم يرغب الناس بالعيش فيها، لأنهم كانوا يتطلعون للجديد، الإسمنتي الذي وجدوا فيها نموذجاً عصرياً، لا العمارة التقليدية باللبن.

العصرنة، ارتبطت بالإسمنت في أربعينيات القرن الماضي، التي شهدت المشروع الفذ لحسن فتحي، نفس الإسمنت الذي خلب لب الحاكم في أواخر القرن التاسع عشر. لقد تغيرت القيم الاجتماعية والجمالية، مع فرض معايير لتخطيط المدن والعمارة.

البيوت التي صممها المعماري حسن فتحي، متضمنة أحواشها الأليفة، رأت النور في مصر ودول الخليج. لم يسكن فيها الفقراء الذين ضربت ثقافتهم. صمم حسن فتحي الكثير من البيوت للأثرياء في مصر والخليج.

رؤية رماح غريب، تتلخص نهاية المطاف بأن التخطيط الحضري وقوانين البناء يقيدان المرونة لإقامة الفناء أو فتح جيوب في المباني السكنية، وعليه إعادة النظر في مقاسات الأراضي المتاحة للمباني السكنية.

ثانياً: زيادة المعرفة بالنواحي الاجتماعية والثقافية بين المهندسين المعماريين والمصممين، واحترام تقاليد وأعراف المجتمعات الإسلامية.

ثالثاً: إعادة النظر في البرامج التعليمية الحالية، وتطويرها لتعزيز التصميم المبتكر ثقافياً.

رابعاً: زيادة فرص البحث واكتشاف منهجيات تصميم جديدة لتوفير السكن التقليدي، بشكل معاصر يواكب التكنولوجيا الحديثة.

دلالات
المساهمون