رفع الدعم... وكذب الفاسدين

16 مارس 2015
منظومة ‏الدعم سببها ضعف الأجور وفشل السياسات الاقتصادية(Getty)
+ الخط -
أصبحت عبارة "الدعم يهدر المال العام" تتردّد كثيراً خلال السنوات ‏الماضية في عدد من الدول العربية. ينظّر أتباع مدرسة السوق الحرّة بأن ‏الفساد في الإدارات العامة يمنع وصول الدعم إلى الفئات التي يجب أن ‏تستفيد منه. يؤلفون مقالات وكتباً ومجلدات عن ضرورة خفض الإنفاق ‏غير المجدي، وتحقيق التوازن في الميزانية العامة، لخفض الديون ‏المتوجبة على الدولة... ومن ثم ينتقلون إلى الفكرة الأساس وهي ترك ‏المرافق العامة لإدارة القطاع الخاص، وبأحسن الأحوال تحقيق الشراكة ‏ما بين القطاعين العام والخاص في ادارة المرافق.‏ 

تحليل لا يمكن أن يكون أكثر سطحية، ولا أكثر تلاعباً بمعاناة ‏المواطنين، ولا أكثر استثماراً لرداءة الخدمات العامة التي يجب أن ‏تؤمنها الحكومات بإشراف البرلمانات التي يتلقى أعضاؤها رواتبهم من ‏دافعي الضرائب والرسوم، أي من الناس.‏

يمكن ببساطة طرح سؤال على أصحاب نظرية رفع الدعم: هل المشكلة ‏في الدعم أم في الفساد؟ هل حل المشكلة يكون عبر رفع الدعم أم القضاء ‏على الفساد؟ وهل من المستعصي على الحكومات إجراء مسوح اجتماعية ‏تحدد فيها عدد الأسر الفقيرة لكي توجه لها الدعم؟ ومن ثم هل من يدير ‏اللعبة الاقتصادية غير متورط بالفساد الذي يهدر المال العام في كل ‏المرافق لا في آليات الدعم حصراً؟ ‏

في الأسابيع الماضية، أعلنت مصر أنها ستحوّل الدعم العيني للفقراء إلى ‏دعم نقدي. يا سلام، وهل تعلم الحكومة عدد الأسر الفقيرة لكي تدعمها ‏أصلاً؟ إذ إن الأكيد أن تصريحها ليس إلا حبراً على ورق لتمرير خطة ‏رفع الدعم.‏

وفي تونس، أعلنت الحكومة أن خلل الموازنة لا يتحقق إلا برفع الدعم، ‏وكذا في الأردن ولبنان واليمن وسورية والعراق وغيرها. لتسير هذه ‏الدول على مبدأ استئصال يد من جسد مريض بدلاً من التفكير في علاج ‏يزيل المرض من الجسد كله.‏

لا شك في أن الهدر موجود في آليات الدعم، من المحروقات وصولاً إلى ‏المواد الغذائية الأساسية فالرغيف. وهذه الأزمة تلازم كل الدول العربية ‏التي تلتزم قنوات الدعم، ومن دون استثناء. ولا شك أيضاً في أن غالبية ‏الإدارات العامة فاسدة، وأن عدداً كبيراً من الموظفين فاسدون.‏

إلا أن هذا الهرم يرأسه وزراء غالبيتهم من أرباب الفساد في هرم ‏السرقات والنهب. وهم الوزراء أنفسهم الذين يدعون إلى رفع الدعم، ‏وأنفسهم الذين يقررون إمّا السير في الخصخصة أو مواجهتها، بحسب ‏حصتهم المضمونة من كعكة الصفقات... فالبلدان الفاسدة التي يستبيح ‏موظفوها وحكامها دعم الفقراء، لا حدود فيها لاستغلال المال العام ‏وهدره، بشتى الطرق. ‏
وفي نهاية كل مسرحية لرفع الدعم أو خفضه، ولإقرار الخصخصة أو ‏الشراكة، يبدأ كل من البنك الدولي وصندوق النقد بالتصفيق ومنح ‏شهادات النجاح للأنظمة مهما كانت سياساتها جائرة. فكلتا الجهتين تريد ‏خفض إنفاق الدول الضعيفة، ولو مات فقراؤها، من أجل خفض مستوى ‏العجز والدين ومن ثم تمكين هذه الدولة من الاقتراض من جديد، لتصبح ‏خاضعة تماماً لسياسات الصندوق وتوجيهات البنك في كل السياسات ‏والخطط التي تحول الأسواق العربية إلى مكب لقمامة الصناعات والسلع ‏الأوروبية والأميركية.‏

أما ملايين المتضررين من الأنظمة العربية الفاشلة، الذين دخلوا منظومة ‏الدعم بسبب الاختلال بين مستوى الأجور ومعدل التضخم، وبسبب فشل ‏السياسات الاقتصادية والاجتماعية في تحقيق التوزيع العادل للثروات ‏الوطنية، هؤلاء، فليموتوا جوعاً. فالسلطة التي أحدثت الفجوة ‏الاجتماعية، والتي سحقت قدرتهم الشرائية، والتي تسوق لرفع الدعم أو ‏رفعته أصلاً، لن تفكر بمصير المطحونين من جراء فسادها. ولن تفكر ‏في اجتراح سياسات جديدة لتمكين مواطنيها. ‏
الأنظمة العربية، أولاً وأخيراً، لا تفكر إلا بنفسها وبدوام سلطتها.‏

إقرأ أيضا: ما هو رأس المال الثابت والمتحرّك والمكتسب؟