ويعيد موقف الحركات المسلحة السودانية للأذهان مواقف سابقة مُشابهة، أبرزها رفض "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، بقيادة الزعيم الجنوبي جون قرنق، في العام 1985، التعامل مع الثورة الشعبية في ذلك العام التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري. ويثير موقف الحركات المسلحة اليوم، مخاوف من أن يؤدي إلى عدم استقرار حقيقي في البلاد، وعودة التوتر إلى الجبهات المشتعلة.
وحالياً، توجد في السودان خمس حركات مسلحة رئيسية، تقاتل ثلاث منها في إقليم دارفور، غرب البلاد، هي "حركة تحرير السودان" - فصيل عبد الواحد محمد نور، و"حركة تحرير السودان" - فصيل ميني أركو ميناوي، وحركة "العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم.
وهناك حركتان أيضاً كانتا لوقت قريب تشكلان جسماً واحداً يعرف باسم "الحركة الشعبية" - قطاع الشمال، ويقاتل في جنوب كردفان والنيل الأزرق. هذا الجسم انشق إلى فصيل أول يقوده عبد العزيز الحلو، وآخر بقيادة مالك عقار.
وبتقسيمٍ يستند إلى الموقف من "قوى الحرية والتغيير"، فإن "حركة تحرير السودان" - فصيل عبد الواحد محمد نور، هي الأبعد من تحالف "قوى الحرية"، وأعلنت مراراً عدم اعترافها بهذا التحالف، بل هي تتهمه مباشرة بسرقة ثورة الشعب ضد نظام المعزول عمر البشير، وترى أن اتفاقه مع "العسكري" خيانة للثورة ودماء الشهداء.
أما فصيل عبد العزيز الحلو (الحركة الشعبية قطاع شمال)، فلم يتخذ موقفاً واضحاً، لا من تحالف "قوى الحرية والتغيير"، ولا من الاتفاقات الجارية بينه وبين "المجلس العسكري"، لكن زعيم الفصيل الذي يعد الأقوى عسكرياً من بين جميع الحركات المسلحة، قابل قبل أسابيع ممثلين لـ"تجمع المهنيين السودانيين" في أديس أبابا، وتعهد لهم بعدم الدخول في أي حوار يكون "العسكري الانتقالي" طرفاً فيه، وأنه جاهز للدخول في حوار مع أي حكومة مدنية بعد تشكيلها.
أما بقية الحركات، فهي تكوّن كياناً باسم "الجبهة الثورية"، لكنها في الوقت نفسه جزء من كتلة "نداء السودان"، إحدى المكونات الرئيسة لـ"تحالف الحرية والتغيير"، وقد دعمت الثورة منذ بدايتها. لكن غضبها ظهر بعد سقوط نظام عمر البشير وبدء الحوار بين "العسكري" و"الحرية والتغيير"، وذلك رداً على ضعف تمثيلها ضمن الوفد المفاوض، وعلى عدم إيلاء الاهتمام، بحسب تعبيرها، بقضايا النزاع المسلح وطرق حلّه خلال جولات التفاوض والاتفاقيات التي تم التوصل إليها.
وحينما تمّ التوقيع على الإعلان السياسي بين "العسكري" و"الحرية والتغيير" الشهر الماضي، وجدت "الجبهة الثورية" نفسها مضطرة لإعلان انسحابها من التفاوض، ورغبتها في فتح حوار منفصل بينها وبين "العسكري"، غير أن اجتماعات التأمت خلال الأسابيع الماضية في أديس أبابا بينها وبين "قوى إعلان الحرية والتغيير" انتهت بتوصيات طالبت "الجبهة" بتضمينها ضمن الوثيقة الدستورية المزمع التفاوض حولها.
لكن بمجرد التوصل إلى الاتفاق حول الوثيقة الدستورية والتوقيع عليها بين "العسكري" و"الحرية والتغيير"، عادت "الجبهة" مرة أخرى إلى النقطة نفسها، برفضها ما جاء في الاتفاق.
وبحسب بيانٍ صادر عن مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية - قطاع الشمال، وميني اركو ميناوي، رئيس "حركة تحرير السودان"، فإن "الجبهة الثورية" طالبت في محطات عديدة، بضرورة هيكلة "قوى إعلان الحرية والتغيير"، وضبط مناهج اتخاذ القرار فيها، حتى لا يختطف قرارها بواسطة جهات وأطراف غير مخولة باتخاذ القرار نيابة عنها، وحتى تشارك جميع مكونات "الحرية والتغيير" في تحديد رؤيتها التفاوضية وتحديد مرجعيتها وتوحيد خطابها الإعلامي عبر هيكل إداري محكم يعالج السيولة التنظيمية لها.
وأوضح البيان أن "اجتماعات أديس أبابا التاريخية قدمت رؤية شاملة للسلام تؤمن تحقيق السلام عبر مخاطبة جذور المشكلة السودانية، والعمل على إزالة المظالم التاريخية، توطئة لإنهاء الحرب بمخاطبة الأسباب التي أدت إلى حمل السلاح". كما أدت مشاورات أديس أبابا، طبقاً لما جاء في البيان، إلى "توافق تام حول هيكلة الحرية والتغيير، لتكون قادرة على حمل أعباء الفترة الانتقالية"، مؤكداً أن الأطراف في أديس أبابا توافقت على إدراج رؤية السلام كاملة في وثيقتي الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري، وعلى ضرورة الربط الوثيق بين تحقيق السلام والتحول الديمقراطي
وأكد البيان عدم قدرة "الجبهة" على "قبول الوثيقة الدستورية بشكلها الراهن لأنها تجاوزت مبادئ محورية في أمر السلام، بل ووضعت عراقيل أمام تنفيذ أي اتفاق سلام قادم، بتحديد سقفه بمنطوق الوثيقة الدستورية نفسها".
وذكر البيان أن "رؤية السلام المتفق عليها بواسطة جميع أطراف الحرية والتغيير في أديس أبابا، وجدت الترحيب والقبول في قاعة التفاوض من الوسيط الأفريقي ومن ممثلي المجلس العسكري"، إلا أنها جوبهت باعتراضٍ شرس من جانب غالببية ممثلي قوى الحرية والتغيير، ولم تفلح المواقف المشهودة للأستاذ عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، في مقابلة المواقف المتشددة الرافضة والمؤسفة التي تبناها الدكتور إبراهيم الأمين، ممثل حزب الأمة القومي، وعلي السنهوري، ممثل قوى الإجماع، وبقية ممثلي قوى الحرية والتغيير، ما يعكس بجلاء حجم وعمق الأزمة السودانية".
وأوضحت "الجبهة الثورية" أن الأطراف من "الحرية والتغيير" التي عرقلت إدراج رؤية السلام بنصها وروحها في الوثيقة الدستورية، لا ينتظر منها العمل مستقبلاً لصالح توقيع اتفاق سلام يوقف الحرب ويعالج قضايا التهميش، كما أن تجاوز قضايا السلام والانتقال الديمقراطي، بالعمل على إقصاء أطراف مهمة قدمت التضحيات الجسام ولا تزال في الثورة السودانية، يمثل هروباً صريحاً واختطافاً لنضالات الثوار، واستئثاراً بالسلطة، وانفراداً بالقرار في إعادة إنتاج بائسة لمنهج نظام المؤتمر البائد، وتكرار محزن للأخطاء التاريخية للنخب السياسية منذ فجر الاستقلال.
وأكدت "الجبهة" عزمها على "مواصلة الجهود لتحقيق السلام العادل الشامل وإنجاز تحول ديمقراطي يضمن مشاركة جميع الأطراف ويعالج المظالم التاريخية"، كما أنها "ستتواصل مع الوساطة الأفريقية والمجلس العسكري الانتقالي وحلفائها في القوى السياسية، لتعديل الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي وتضمينهما قضايا السلام بالشكل الذي يضمن تحقيقه قبل التوقيع النهائي على الإعلان الدستوري في السابع عشر من أغسطس الحالي".
ودعت "الجبهة" كافة أطراف "الحرية والتغيير" الرافضة للاتفاق والوثيقة الدستورية، لما تتضمنه من عيوب مقعدة، إلى العمل سوياً لإدراج قضايا السلام والنازحين واللاجئين، ولضمان تمثيلٍ عادل للمرأة وللشباب، ولتحقيق العدالة الناجزة للضحايا.
وحول موقف "الجبهة"، أوضح القيادي فيها، عبد العزيز نور عشر، والذي كان حاضراً في قاعات التفاوض، في حديث مع "العربي الجديد"، أن أطرافاً من "الحرية والتغيير" تنصلت في الدقائق الاخيرة من التوقيع على الاتفاق الأخير مما تم التشاور حوله والاتفاق عليه في أديس أبابا، لذا ظهرت مواقف التحالف غير منسجمة، ما دفع "العسكري" إلى تجاهل المطالب الملحة الخاصة بتحقيق السلام
وقال عشر، لـ"العربي الجديد"، إنه شخصياً كتب نصّاً واضحاً طلب فيه من المفاوضين إضافة نص للوثيقة الدستورية يقضي بإدراج أي اتفاق سلام يوقع عليه مع الحركات المسلحة لاحقاً ضمن الوثيقة، على أن تسود أحكامه في حال تعارضه معها، فكان مصيره الرفض، ولم ينكر عشر وجود بنود مهمة في الوثيقة الدستورية تعالج قضية السلام.
وللتعاطي مع موقف "الجبهة" الأخير، اقترح عبد العزيز عشر إجراء تعديلات ضرورية على الوثيقة الدستورية قبل التوقيع عليها في 17 آب/ أغسطس الحالي، محذراً من "استئثار قوى سياسية وحدها بالسلطة واتخاذ القرار". وأشار إلى أن عدم حماسة فصيل الحلو وفصيل عبد الواحد للحوار الحالي هو لاعتقادهما بعد التزام كل الأطراف بالعهود والمواثيق، وهذا ما أكد صحته موقف بعض مكونات "الحرية والتغيير".
وأشار القيادي في "الجبهة" إلى أن استمرار الوضع "سيقود إلى إقصاء وإلى عدم استقرار حقيقي"، من دون قدرته على الجزم في الوقت ذاته بإمكانية تسخين جبهات القتال، كرد فعل على التطورات.
وتعليقاً على موقف "الجبهة"، رأى الخبير الأمني والاستراتيجي أمين اسماعيل مجذوب أنه "شكلٌ من أشكال المناورة السياسية للحصول على مزيد من المكاسب"، معتبراً أن "الجبهة، وبكافة مكوناتها، لا تملك أي وجود حقيقي على الأرض، أو قدرة على التأثير السياسي الواسع".
ولفت مجذوب، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "سيتم تجاوز الجبهة الثورية تماماً خلال المرحلة المقبلة إذا أصرت على موقفها"، مقراً في الوقت ذاته بفرضية قدرة الجبهة على القيام بعمل عسكري محدود، لتأكيد وجودها، معرباً عن خشيته من أن يكون للموقف تأثير خارجي، من خلال امتناع واشنطن عن إزالة اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، لاشتراطها لذلك تحقيق السلام في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. وأكد الخبير أن "الفرصة لا تزال متاحة قبل التوقيع النهائي لاستدراك الموقف عبر اللجنة المعنية بالتفاوض مع الحركات المسلحة التي كونها المجلس العسكري برئاسة نائب رئيس المجلس، الفريق أول محمد حمدان دقلو"، المعروف بـ"حميدتي".
من جهته، رأى الصحافي علاء الدين بابكر، أن "الجبهة الثورية اعتادت على العزف منفردة، لأن طريقة تعاملها مع القضية الوطنية مختلفة عن القوى المدنية الأخرى، وهو أمر يعود إلى طبيعة تكوينها، لأن كل القوى الحاملة للسلاح ينتهي بها الأمر إلى الدخول في تسوية يتم فيها اقتسام السلطة والثورة، على أن توزع السلطة على النخبة التي حملت السلاح كمكافأة لها، وهذه الطريقة الخاطئة شجعت آخرين لحمل السلاح باسم القضية العادلة للوصول إلي غنيمة السلطة"، على حد تعبيره.
وأضاف بابكر، لـ"العربي الجديد"، أن "الجبهة الثورية" فوجئت بواقعٍ جديد ليس فيه قسمة "ضيزى" كما كان يحدث في العهد البائد الذي تستخدم فيه سياسة إطفاء الحرائق، مشيراً إلى أن "التحفظ الموضوعي هو عدم تضمين قضايا النازحين واللاجئين ضمن الوثيقة الدستورية". واعتبر أن ما لم يقله البيان الأخير لـ"الجبهة" هو رغبتها في أن تكون طرفاً في عملية المحاصصة، وهو ما غلفته بقضايا النازحين واللاجئين، بهدف كسب التأييد والتعاطف.
وأكد بابكر أن التعاطي مع الموقف الحالي، هو أن تعمل "الجبهة الثورية" على مناقشة خلافاتها داخل الأطر التنظيمية لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير"، وألا تخرج بها للعلن، لأن هنالك من يريد التربص بالثورة والانقضاض عليها، مستبعداً عودة التوتر إلى مناطق النزاع، لأن "الجماهير ملّت من الحرب"، ولأن "الجميع يتطلعون إلى واقع أفضل في كنف التغيير الذي طرأ"، مستنكراً "المزايدات غير المقبولة بوسيلة الكفاح المسلح، لأن النظام السابق سقط بواسطة الجماهير، وبالوسائل المدنية".
كما أشار بابكر إلى أن الدعوة لهيكلة "قوى الحرية والتغيير" مقبولة، لكن في المقابل، فإن "الجبهة الثورية" تحتاج لترتيب أوضاعها الداخلية، لتكون "مؤهلة أخلاقياً" للحديث عن الهيكلة