عاشَ من آثر البقاء في مدينة دوما (ريف دمشق) يومهم الأسوأ. ما حدث لهم كان أكثر من مجزرة. وصفوه بـ "يوم القيامة" الذي جاءهم قبل الأوان. حدّدت طائرات النظام السوري توقيتاً يناسبها للقضاء على الحجر والبشر في هذه المدينة. من بقي حياً، سيذكر أنه كان هناك شوارع وحارات وحياة وبشر. لكن النظام لم يترك لهم غير الموت.
"يلي بيموت الله يرحمه". بهذه الكلمات حاول أبو محمد تهدئة زوجته المفجوعة بفقدان أولادها الأربعة. كانا يتلقيان العلاج في مركز الإسعاف في المدينة، يقابلهما طفل لم يتجاوز الأربع سنوات من عمره يناجي والده. كان يردّد أنه لا يريد الموت اليوم، هو الذي أصيب بشظية استقرت في معدته. مشهدان ليسا إلا جزءاً من مشاهد كثيرة أخرى شهدتها المستشفيات الميدانية والنقاط الطبية في دوما.
شهداء
لكل شهيد حكايته. لن تُمحى صور المجزرة من أذهان الأطفال يوماً. كيف ينسى طفلٌ صورة أخيه يحمل قدمه المبتورة، أو صورة والده الغارق بدمائه، وهو يحاول جاهداً التقاط أنفاسه قبل أن يفقدها إلى الأبد؟ قتل النظام عائلات بأكملها، ووصل عدد الشهداء إلى 124 شخصاً، بالإضافة إلى 700 جريح، بحسب المكتب الإسعافي التابع للمدينة. لكن هذه الأرقام مرجحة للازدياد نظراً لوجود كثير من المفقودين.
قضى أبو زياد كما يعرفه أهل دوما، أو عمر رشيد خيتي، وهو صاحب محل للدهان في سوق دوما الشعبي، حرقاً، بعدما استهدف دكانه الصغير بالصواريخ الفراغية. يروي المسعف محمد بدرا ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم (فجر أول من أمس). يقول: "دخل دكانه صباح ذلك اليوم، بينما كانت أصوات الانفجارات تدوي في المكان حاصدة الأرواح. جلس على كرسيه الخشبي، ليسقط صاروخ على محله الصغير المليء بالمواد النفطية سريعة الاشتعال، ما أدى لاندلاع حريق كبير وسقوط سقف المحل فوق رأسه. ظلت النار تشتعل نحو ساعة ونصف الساعة قبل إطفاء الحريق. وبعد أربع ساعات، انتُشلت جثته وقد تشوهت بالكامل".
في ذلك اليوم، هرع أبو صبحي لتفقد منزل العائلة التراثي، لينفجر الصاروخ أمامه. بقي تحت الركام مدة ساعتين. كان يُصارع الموت ويقرأ آيات قرآنية ويصرخ علّ أحداً يسمعه. لحسن حظه، سمعه بعض المارة وبادروا إلى انتشاله، وقد تعرض لكسر في قدمه وبعض الرضوض.
انهارت ثلاثة مبانٍ سكنية فوق رؤوس قاطنيها. ما زال كثيرون عالقين تحت الركام. حملت أمهات دوما المعاول وغيرها من الأدوات لإزالة الركام عن صدور أحبتهن. إحدى الأمهات رفضت الحديث لـ "العربي الجديد". خافت أن تضيّع الوقت. لكلّ دقيقة ثمنها. ربما باستطاعتها إنقاذ بعض الأرواح.
رعب
لم تشهد دوما من قبل يوماً كهذا. سقطت صواريخ بعدد دقائق النهار. عجز أكرم سويدان عن النوم في الليلة التي سبقت المجزرة. قضى ليله يتأمل زوجته وأطفاله. خاف أن يكون هذا لقاءهم الأخير. يقول لـ "العربي الجديد": "أشرقت الشمس وبدأ القصف. جلست وأطفالي في إحدى زوايا البيت. كنا خائفين. مع ذلك حاولت طمأنة العائلة وأخبرتهم أن الله معنا ولن يتخلّى عنا".
يضيف الرجل باكياً: "بات أطفالنا قادرين على التمييز بين أصوات القذائف والطائرات وغيرها. لم يعودوا أطفالاً. كان هذا اليوم الأطول على الاطلاق. لا كهرباء أو تلفزيون أو اتصالات. كنا نخشى سماع خبر استشهاد أحد أقاربنا".
حين هدأت الغارات، خرج سويدان لتفقد أهله وجيرانه. انقضى النهار. هدأ قصف الطائرات ليلاً. يقول: "شعرنا بالاطمئنان ولو للحظات. لم يسقط المنزل فوق رؤوسنا. كان أهالي دوما يردّدون عبارتين: الحمد لله على السلامة، وعظم الله أجوركم".
لم تسلم مراكز الإسعاف من القصف، أيضاً. استهدفت الطائرات نقطة الإسعاف المركزي في دوما، ونقطة الاستشفاء بشكل مباشر، بالإضافة إلى تدمير خمسة مبانٍ حولها. فيما لم يعد المكتب الطبي قادراً على استقبال الجرحى بسبب أعدادهم الكبيرة، ما أدى إلى تأزم أوضاعهم الصحية.
كذلك، تضررت سيارتا الإسعاف التابعتان لفريق الدفاع المدني، بعدما اصطدمتا ببعضهما البعض بسبب سقوط القذائف. في السياق، يقول المسعف محمد الدوماني لـ "العربي الجديد": "لم تكن جميع فرق الإسعاف قادرة وحدها على العمل، ما دفع الأهالي والمجتمع المحلي للمساعدة في انتشال الجثث، والبحث عن العالقين بين الأنقاض وإن من خلال أدوات بدائية"، لافتاً إلى أن العمل ما زال مستمراً حتى اللحظة.
وتعاني المراكز الطبية نقصاً في التجهيزات والأدوية، نتيجة كثرة الإصابات، بالإضافة إلى استهداف نقاط طبية عدة ومستودعات الأدوية الأساسية.
ويؤكد المسعف في الهلال الأحمر راتب أبو الحسين أن "الكادر الطبي ما زال متماسكاً على الرغم من المصاعب، علماً أن البعض انهار بسبب الإرهاق الشديد". يضيف: "كان يمكن إنقاذ العديد من الجرحى ممن استشهدوا لو وجدت المساعدات والمستلزمات الطبية. لا أعرف إن كان بإمكاننا متابعة العمل في حال استمر الحال على ما هو عليه".
مقبرة الشهداء
لم يعد ممكناً دفن المزيد من الجثث في مقبرة دوما، بعدما تجاوز عدد الشهداء الـ 4304 منذ بدء الثورة، بحسب "المركز السوري للإحصاء والبحوث" و"الشبكة السورية لحقوق الانسان"، ما دفع المجلس المحلي التابع للمدينة إلى بناء مقبرة أخرى على أطراف المدينة منتصف عام 2013، أطلق عليها اسم "مقبرة الشهداء".
يقول سويدان إن المقبرة الجديدة خصّصت لدفن الشهداء، مضيفاً أنه "من الأفضل دفنهم على الفور. بات القبر المكان الأكثر أماناً. كما أنه لا توجد ثلاجات في المدينة لحفظ الموتى".
في هذا الإطار، يلفت الناشط الإعلامي حسان تقي الدين لـ "العربي الجديد" إلى أن "القصف وحده بات يقتل أهالي دوما. لم يعد هناك موت طبيعي". يضيف أن "العاملين في المقابر يجهزون يومياً أكثر من خمسين قبراً تحسباً لأي طارئ". يضيف: "امتلأت جميع القبور الجديدة، وازدادت أعداد الشهداء. لا يمر يوم واحد على المدينة من دون شهيد". بحسب المكتب الإغاثي التابع للمدينة، كان عدد سكان دوما يُقدر بنحو 550 ألف مدني، ولم يعد فيها اليوم أكثر من 200 ألف.
"يلي بيموت الله يرحمه". بهذه الكلمات حاول أبو محمد تهدئة زوجته المفجوعة بفقدان أولادها الأربعة. كانا يتلقيان العلاج في مركز الإسعاف في المدينة، يقابلهما طفل لم يتجاوز الأربع سنوات من عمره يناجي والده. كان يردّد أنه لا يريد الموت اليوم، هو الذي أصيب بشظية استقرت في معدته. مشهدان ليسا إلا جزءاً من مشاهد كثيرة أخرى شهدتها المستشفيات الميدانية والنقاط الطبية في دوما.
شهداء
لكل شهيد حكايته. لن تُمحى صور المجزرة من أذهان الأطفال يوماً. كيف ينسى طفلٌ صورة أخيه يحمل قدمه المبتورة، أو صورة والده الغارق بدمائه، وهو يحاول جاهداً التقاط أنفاسه قبل أن يفقدها إلى الأبد؟ قتل النظام عائلات بأكملها، ووصل عدد الشهداء إلى 124 شخصاً، بالإضافة إلى 700 جريح، بحسب المكتب الإسعافي التابع للمدينة. لكن هذه الأرقام مرجحة للازدياد نظراً لوجود كثير من المفقودين.
قضى أبو زياد كما يعرفه أهل دوما، أو عمر رشيد خيتي، وهو صاحب محل للدهان في سوق دوما الشعبي، حرقاً، بعدما استهدف دكانه الصغير بالصواريخ الفراغية. يروي المسعف محمد بدرا ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم (فجر أول من أمس). يقول: "دخل دكانه صباح ذلك اليوم، بينما كانت أصوات الانفجارات تدوي في المكان حاصدة الأرواح. جلس على كرسيه الخشبي، ليسقط صاروخ على محله الصغير المليء بالمواد النفطية سريعة الاشتعال، ما أدى لاندلاع حريق كبير وسقوط سقف المحل فوق رأسه. ظلت النار تشتعل نحو ساعة ونصف الساعة قبل إطفاء الحريق. وبعد أربع ساعات، انتُشلت جثته وقد تشوهت بالكامل".
في ذلك اليوم، هرع أبو صبحي لتفقد منزل العائلة التراثي، لينفجر الصاروخ أمامه. بقي تحت الركام مدة ساعتين. كان يُصارع الموت ويقرأ آيات قرآنية ويصرخ علّ أحداً يسمعه. لحسن حظه، سمعه بعض المارة وبادروا إلى انتشاله، وقد تعرض لكسر في قدمه وبعض الرضوض.
انهارت ثلاثة مبانٍ سكنية فوق رؤوس قاطنيها. ما زال كثيرون عالقين تحت الركام. حملت أمهات دوما المعاول وغيرها من الأدوات لإزالة الركام عن صدور أحبتهن. إحدى الأمهات رفضت الحديث لـ "العربي الجديد". خافت أن تضيّع الوقت. لكلّ دقيقة ثمنها. ربما باستطاعتها إنقاذ بعض الأرواح.
رعب
لم تشهد دوما من قبل يوماً كهذا. سقطت صواريخ بعدد دقائق النهار. عجز أكرم سويدان عن النوم في الليلة التي سبقت المجزرة. قضى ليله يتأمل زوجته وأطفاله. خاف أن يكون هذا لقاءهم الأخير. يقول لـ "العربي الجديد": "أشرقت الشمس وبدأ القصف. جلست وأطفالي في إحدى زوايا البيت. كنا خائفين. مع ذلك حاولت طمأنة العائلة وأخبرتهم أن الله معنا ولن يتخلّى عنا".
يضيف الرجل باكياً: "بات أطفالنا قادرين على التمييز بين أصوات القذائف والطائرات وغيرها. لم يعودوا أطفالاً. كان هذا اليوم الأطول على الاطلاق. لا كهرباء أو تلفزيون أو اتصالات. كنا نخشى سماع خبر استشهاد أحد أقاربنا".
حين هدأت الغارات، خرج سويدان لتفقد أهله وجيرانه. انقضى النهار. هدأ قصف الطائرات ليلاً. يقول: "شعرنا بالاطمئنان ولو للحظات. لم يسقط المنزل فوق رؤوسنا. كان أهالي دوما يردّدون عبارتين: الحمد لله على السلامة، وعظم الله أجوركم".
لم تسلم مراكز الإسعاف من القصف، أيضاً. استهدفت الطائرات نقطة الإسعاف المركزي في دوما، ونقطة الاستشفاء بشكل مباشر، بالإضافة إلى تدمير خمسة مبانٍ حولها. فيما لم يعد المكتب الطبي قادراً على استقبال الجرحى بسبب أعدادهم الكبيرة، ما أدى إلى تأزم أوضاعهم الصحية.
كذلك، تضررت سيارتا الإسعاف التابعتان لفريق الدفاع المدني، بعدما اصطدمتا ببعضهما البعض بسبب سقوط القذائف. في السياق، يقول المسعف محمد الدوماني لـ "العربي الجديد": "لم تكن جميع فرق الإسعاف قادرة وحدها على العمل، ما دفع الأهالي والمجتمع المحلي للمساعدة في انتشال الجثث، والبحث عن العالقين بين الأنقاض وإن من خلال أدوات بدائية"، لافتاً إلى أن العمل ما زال مستمراً حتى اللحظة.
وتعاني المراكز الطبية نقصاً في التجهيزات والأدوية، نتيجة كثرة الإصابات، بالإضافة إلى استهداف نقاط طبية عدة ومستودعات الأدوية الأساسية.
ويؤكد المسعف في الهلال الأحمر راتب أبو الحسين أن "الكادر الطبي ما زال متماسكاً على الرغم من المصاعب، علماً أن البعض انهار بسبب الإرهاق الشديد". يضيف: "كان يمكن إنقاذ العديد من الجرحى ممن استشهدوا لو وجدت المساعدات والمستلزمات الطبية. لا أعرف إن كان بإمكاننا متابعة العمل في حال استمر الحال على ما هو عليه".
مقبرة الشهداء
لم يعد ممكناً دفن المزيد من الجثث في مقبرة دوما، بعدما تجاوز عدد الشهداء الـ 4304 منذ بدء الثورة، بحسب "المركز السوري للإحصاء والبحوث" و"الشبكة السورية لحقوق الانسان"، ما دفع المجلس المحلي التابع للمدينة إلى بناء مقبرة أخرى على أطراف المدينة منتصف عام 2013، أطلق عليها اسم "مقبرة الشهداء".
يقول سويدان إن المقبرة الجديدة خصّصت لدفن الشهداء، مضيفاً أنه "من الأفضل دفنهم على الفور. بات القبر المكان الأكثر أماناً. كما أنه لا توجد ثلاجات في المدينة لحفظ الموتى".
في هذا الإطار، يلفت الناشط الإعلامي حسان تقي الدين لـ "العربي الجديد" إلى أن "القصف وحده بات يقتل أهالي دوما. لم يعد هناك موت طبيعي". يضيف أن "العاملين في المقابر يجهزون يومياً أكثر من خمسين قبراً تحسباً لأي طارئ". يضيف: "امتلأت جميع القبور الجديدة، وازدادت أعداد الشهداء. لا يمر يوم واحد على المدينة من دون شهيد". بحسب المكتب الإغاثي التابع للمدينة، كان عدد سكان دوما يُقدر بنحو 550 ألف مدني، ولم يعد فيها اليوم أكثر من 200 ألف.