يستعين الفنان الإيراني رضا عابديني (1967) بمقولة نيتشه "التراجيديا ولدت من روح الموسيقى" فيستبدل كلمة التراجيديا بالتايبوغرافي، وكلمة موسيقى بالكاليغرافي، مبيّناً أنه يحاول المشي على منهجية نيتشه في تحليل الثقافة ونقدها.
على خطى الفيلسوف الألماني افتتح عابديني محاضرته التي أقيمت، الثلاثاء، في "دار النمر" في بيروت، والتي تأتي ضمن تظاهرة "مداد"، وفيها تستكشف الدار أسئلة الحروفيين المعاصرين، ومشكلات الطباعة وعلاقة الجمالي بالعملي والبصري.
لماذا ينتقد عابديني الكاليغرافي؟ يبدأ الفنان بتفسير كلمة Origin، فيرى أن معانيها تتعلّق بالطريقة التي نفكر بها وننتقد الفن، من هنا فإن ثمة حاجة لفهم القصد من هذه المفردة، والتي وفقاً للمعجم تعني شيئاً مبتكراً Creative، أي أنه مصنوع من لا شيء Out of nothing من نقطة الصفر.
وإذا سلّمنا بمعاني كلمة "أصلي" وعلاقتها بالإبداعي، وربطنا هذا بالخط، نصل إلى نتيجة أن الإبداع في الخط لم يعد موجوداً، وأن ما نراه اليوم هو "تنويعات قد تكون جميلة جداً" على ما هو موجود أصلاً، أما بالنسبة إلى إيران فإن عابديني يرى أن آخر الخطاطين المبدعين هو ميرزا أصفهاني (أي أن التخطيط كفن انتهى قبل 150 عاماً)؛ يضع عابديني اسم أصفهاني على محرك البحث فتظهر مجموعة كبيرة من الحروفيات التي تبدو كما لو كانت أمواجاً من البحر أو طيوراً سابحة في السماء.
من جهة أخرى، يلفت المحاضِر إلى وجود رابطة للخطاطين في إيران، تصنّف المنتسبين إليها في ثمانية مراحل قبل الوصول من مبتدئ إلى أستاذ، وحين يضع اسم الرابطة على محرك البحث غوغل، يحصل تقريباً على نفس الأعمال التي ظهرت عند وضع اسم أصفهاني. فما السبب في ذلك؟
أليس هذا مؤشراً على فقر الحياة المعاصرة للحروفيات، وأنها مجرّد محاولات تقليد لما سبق وجرى تقديمه فعلاً؛ فتلك الصفحة الأولى من غوغل تضمّ أعمال فنان واحد، أما الأخرى فتضم أعمال لـ منتسبي رابطة الحروفيين في إيران ويبلغ عددهم 60 ألف منتسب.
محاور عدة ناقشها الفنان، من أهمّها معاني كلمات مثل العولمة والعالمية والدولية، والفرق بينهم في ما يخصّ العلاقة بالفن والثقافة. فكيف يمكن أن نميّز مقطوعة للموسيقي الألماني جان سباستيان باخ بينما لا نتعرف على مقطوعة للموسيقي الإيراني سعيد هرموزي رغم أن هذا أقرب في الثقافة والجغرافيا والتاريخ إلينا من الأول؟
سؤال يطرحه عابديني متحاشياً التوقف عند الهيمنة الثقافية وارتباطها بالسياسية، ومن دون أن يتعرّض إلى تأثر العلاقة بين الثقافتين الإيرانية والعربية بالواقع السياسي. غير أنه يشير في عبارة إلى أن "كل ما نعرفه عن الفن انتقائي، ونحن لسنا أحراراً في ما نعرفه، مثل أن نعرف عن الباروك أكثر مما نعرف عن الماهور".
مما تناوله عابديني أيضاً أول أمس، تعليم الفنون الجميلة في إيران، وكيف تنعكس مفردات هذا التعليم على الفنان نفسه، ويعترف أنه ما زال يجد صعوبة إلى اليوم في التخلص من الأمور التي زرعت زرعاً في رأسه والتي تقف حائلاً بينه وبين فهم مغاير للفن.
من الأمور اللافتة التي يتوقف عندها المحاضر، علاقة الصحافة بتطوّر الحرف العربي والفارسي، فيعرض صوراً مختلفة للصحف أول ظهورها في إيران حيث كانت تستعين بالخط الكوفي للكتابة وكانت مقروءة، ولكن ما أن ارتبط تطور الصحافة بالضرورة بتطور شكل الصحافة الغربية، أصبحت المطبوعات الإعلامية في البلاد العربية وإيران تقلد نظيرتها الغربية، وهذا التقليد انتقل إلى الخط، وأصبح مقياس تطوّر التايبوغرافي للحرف العربي مرتبط باستعماله ومقروئيته في الصحف.
ينظر عابديني إلى صور الصحف القديمة، ثم يلتفت إلى الحضور، ويقول "لو أننا أخذنا مساراً مختلفاً، ولم نفصل الخط كفن عن الخط المستخدم في العمل، لو كان لنا طريقتنا في حل المشاكل المتعلقة بالتايبوغرافي لكنا الآن في مكان مختلف".
في جزء من المحاضرة، تنقّل عابديني بين أعمال حروفية إيرانية في السجاجيد والسيراميك والمساجد والمنمنمات ثم الملصقات، متناولاً التاريخ المعقول نسبياً من علاقة مسيرتي الكاليغرافي والتايبوغرافي في إيران.
في آخر المحاضرة، عرض عابديني العديد من الأعمال التي أنجزها بنفسه، إلى جانب أعمال من التراث الإيراني وربطها مع أعمال معاصرة لفنانين من أجيال مختلفة، ثم أتاح للحضور التعرّف على تطور علاقة الملصقات في إيران بالحرف والكتابة.