المرّة الأولى التي صعدت فيها السينما إلى الفضاء كانت قبل إعلان الولايات المتحدة الأميركية هبوط مركبتها الفضائية "أبولو 11" على القمر بسنة واحدة. الحديث هنا عن فيلم ستانلي كيوبريك الشهير، "2001: أوديسا الفضاء"، الذي خرج إلى الصالات في اليوم الأول من عام 1968، ووصف فيه المخرج الأميركي مراحل تطور الإنسان، وصولاً إلى الآلة، التي كان لها الدّور الأبرز في تجريد الكائن البشري من مشاعره، وفي طرح أسئلة وجودية عليه، لم يسبق أن واجهها.
بعد أكثر من 45 سنة من ملحمة كيوبريك الفلسفيّة، يطلّ المخرج البريطاني كريستوفر نولان، بفيلمه Interstellar، ليقول، هو الآخر، إنّ الدراما موجِعةٌ وإن كانت خارج حدود الأرض، طارحاً، مقابل خلاصة كيوبريك، خلاصته الخاصة، التي تتمثل بأن الإنسان لن يفنى بسهولة.
بالرّغم من الاختلاف الفلسفي/العصري الحادّ للصورتين في شريطي كيوبريك ونولان، فإنهما تتماثلان في علاقة الإنسان الوجودية بالآلة التي تجسّد، بشكل أو بآخر، الثورة الصناعيّة والتكنولوجية والتطور البشري الذي طالما وضعه الإنسان، في القرنين الماضيين على الأقل، أمامه كهدف.
المركبة الفضائيّة في الفيلمين تمثل أحد أوجه هذا التطوّر البشري في ذروته، وأحد أوجه البدايات الطفوليّة: النوم الطويل والأكل الزّائف، ثمّ تعلّم المشي مجدّداً؛ إضافةً إلى تمثيلها وظائفيّاً بعض مكوّنات الغرائزيّة البشريّة، مثل التطفّل وحب البقاء وغيرها، والتي إن اجتمعت مع الخوف، تكوِنَّ أمل الإنسان الوحيد بجلائه من الكوكب. لكن، لماذا يودّ الإنسان الهروب من هذا الكوكب؟
نولان، الذي كتب سيناريو شريطه بمشاركة شقيقه جوناثان، يروي لنا القصّة التي تبدأ في مزارع الذّرة بمساحاتها الشّاسعة في الرّيف الأميركي الشّمالي. كوبر، بعد تقاعده من عمله في وكالة "ناسا"، يلتفت إلى إدارة مزرعته الخاصّة إلى جانب ولديه ووالد زوجته بعد رحيل الأخيرة. شخصيّة كوبر مزدوجة المعالم يجسّدها ولداه: مورف؛ الفتاة التي سوف تمثّل، لاحقاً، ذاكرته وبقاءه؛ وتوم، الوجه الأكثر واقعية في أبيه. هكذا، يمكن النظر إلى الولدين بوصفهما نموذجاً لضفتيّ المواجهة البشرية مع الفاجعة.
كل شيء يبدو تقليديّاً في حكاية نولان: العشب، ملعب البايسبول، الجماهير المحتشدة، قبعات الفرق المنافسة؛ إلى حين ظهور العاصفة الغبارية التي تبدّد مظاهر الحياة الطبيعيّة، فتحاصر الناس داخل بيوتها التي اعتادت الهروب إليها. هدوء العاصفة الغبارية غير مطمئن على أي حال، فالكارثة إلى أسوأ، والإحساس الدّائم بالهلاك يهيمن على مشهدية الحقول الخضراء التي عادةً ما توحي بالبقاء. الأرض ليست على ما يرام، كما يقول الحال.
هنا، يظهر مزيج مُربك يحضّره نولان، من الرغبة في الحفاظ على الحياة البشريّة، في مواجهة العائلة وفيض المشاعر الخلّابة التي تشوبها الاعتذارات المتكرّرة؛ الأب يعتذر من عائلته، العائلة من كوبر، العلماء من العائلة، العلماء من رواد الفضاء، ورواد الفضاء من بعضهم البعض. حالة استسلام جماعيّة سورياليّة تحاول جاهدةً محاكاة القدر: نحن الحالمين، فشلنا مرة أخرى، فهل نعتذر، ويُقبل الاعتذار؟ هل من فرصة أخيرة للحياة؟
يكمل نولان حكايته: بعثة "ناسا" السرية ترصد "مِزقاً" في الفضاء؛ حلقة دوديّة تستجيب للخذلان البشري. المركبة الفضائيّة التي صمّمها العالم براند لم تكن بحاجة إلّا إلى قبطان يدير الرحلة. يتدخّل القدر مرّة أخرى ليجمع بين كوبر، القبطان السّابق، وابنة د. براند، رائدة الفضاء والعالمة أميليا.
طاقم "ناسا" يسبح الآن في الفضاء بسرعة الضوء، أو ربّما ينبغي القول "بسرعة قريبة من سرعة الضّوء"، كما يعبّر أينشتاين، الذي وصف المركبة، بعيداً عن أفكار نولان، بالتي تتسابق مع البعد الرّابع؛ أي الوقت، ولهذا حافظ كوبر وبراند على عمرهما، باعتبار أن الدقائق الضوئيّة تعادل أشهراً وسنوات أرضيّة تبعاً لقانون النسبيّة.
ليس Interstellar مواجهة نولان الأولى مع خياله، أو الخيال العلمي. مخرج Inception يعشق الأجواء اللايومية، والشّخصيات المزدوجة والحبكة المتعاكسة. كان في إمكانه صناعة فيلم وثائقي كلاسيكي عن المجرّات. لكنه أراد من شريطه أن يكون مهرجاناً للخيال. حتى أن الفيلم لا يفسح لمشاهديه لحظة لالتقاط الأنفاس، أو النظر خارج اللّوحة النولانيّة.
فحين لم تكن تكتمل الصّورة "العلميّة" في إحدى خانات الفيلم، مثلاً، كان المؤلّف الموسيقي هانس زيمير يعيد التوازن إلى الشريط بخرقه جدار الصّوت عبر مؤثّراته الخاصّة. بطبيعة الحال، يحمل الفيلم معاني سامية إذا ما أردنا مقارنته بعدد واسع من إنتاجات السينما الأميركيّة المعاصرة التي تهاب نولان وأمثاله في العديد من المناسبات الإنتاجيّة.
يقول الشّاعر الويلزي ديلان توماس (بصوت الممثل مايكل كاين خلال مقطعين من الفيلم) في إحدى قصائده: "لا تدخل في ذلك اللّيل اللّذيذ، فحريّ بالشيخوخة أن تشتعل وتهيج لحظة انقضاء النّهار؛ صبّ جام غضبك، صبّ جام غضبك على احتضار الضّوء". يستعمل نولان كلمات توماس للتّعبير عن مجاز فلسفي يجسّد حالة الجنون والغضب والقوّة التي تحتلّ جزءاً كبيراً من عقولنا عند الإحساس بالخطر.
في حديثه عن الحرية، قال جان بول سارتر: "لم نكن أحراراً كما كنّا أثناء الاحتلال النّازي". حتماً، لم يرد الفيلسوف الفرنسي مغازلة الاستعمار بكلامه هذا، بل كان يصف الحريّة بشرطيّة علاقتها الوجوديّة: لو لم تحتلّ ألمانيا فرنسا لما أحسّ الفرنسيون بالحريّة بعد جلاء القوّات النّازيّة.
وبالتّالي، لن نشعر بدورنا بالأمان إلا حين وصول الخطر إلى أبوابنا. يمكن القول إن Interstellar تمكّن من محاكاة هذا الخطر، عبر دراما جدلية معاصرة، تورّط الفلسفة، بإحكام وجمالية عاليين، في رواق المتعة؛ الهدف الأول من السينما، إذا كان في الإمكان تسمية أهداف لها.