رسائل

02 مارس 2016
إيلي كنعان / لبنان
+ الخط -

واقف في مكانه لا يبرح، يجري محادثات طويلة مع الغيب. يمرّ عنه الناس في زحام المركز، ولا ينتبهون. وإذا جاءت النظرة في النظرة، فسرعان ما تفترقان. هو أيضاً لا يراهم. ولا يرى شيئاً من عالمهم. أقترب منه وأمدّ يدي بسيجارة.. أميغو.. يأخذها ويعلّقها بين شفتيه. أعبره متجهاً نحو البريد المركزي، ومنه إلى الشاطىء. أُمضي هناك فترة الظهيرة والعصر والمغرب، ثم أرجع. على الإشارة الضوئية نفسها في فيالايتانا أراه كما تركته، ويلفتني أن السيجارة لم تُدخّن بعد.

أقطع الشارع وأنزل في كاييه برنسيسة، نحو كارّيه رِكْ. أستحمّ وأنام.

أستيقظ وقد نسيته تماماً. أبكّر لشراء الجريدة من الرمبلا، وأمرّ عن الموضع فلا يكون.

أعود وأنشغل بهموم الدنيا وتجديد ورق الإقامة، وتمضي أيام.

أيام طويلة حتى أراه بالسيجارة نفسها وقد اصفرّ ورقها الأبيض الرقيق، وانبعجت من مقدمتها.
مكسورة؟ لست متأكداً.

أما اسمه، فأوقن أن لا أحد، ولا حتى صاحب الكافيه المحاذي لوقفته اليومية يعرف.

أكتب عنه هذا الكلام، بعد أن اختفى بالمرة. مات؟ انتقل إلى مكان ثان؟ أخذوه لملجأ؟

وأعود فأقول سيأتي غيره. فمدينة كهذه لا تكفّ عن إفراز هذه الحالات كل يوم. وما إن تختفي حالة، حتى تعود شبيهتها في عملية إعادة انتاج وتدوير مستمرة.

مع ذلك، ثمة جزء من أُلفة المدينة تبخّر: روح نقصت، ومعْلم غاب.

أحنّ إلى محادثاته الطويلة مع ذلك الغيب. وأتذكّر الآن أنني لم أره مرة واحدة بسيجارة مشتعلة.

ما كان يشتعل فيه فقط عضوان: العينان واللسان.

لقد ذهب، دون أن يظفر بمتلقّ واحد، طوال سنين. ومع هذا لم يكفّ عن الإرسال (أليست هذه في واحدٍ من جوانبها بطولة؟) وأُقارن حالنا بحاله وأقول لا. حالنا يظل أفضل بمراحل، فعلى الأقل لدى الواحد منا بضعة متلقّين في الزحام. ولو استقبل خمسة منهم رسائلنا، فهذا كاف لنقول إن الرسائل، مهما تتأخّر، تصل. مع أنّ زملاءنا في غير قارّة، كفّوا عن وظيفة كهذه منذ عقود. وغدوا ينظرون باستخفاف لمن يسألهم عن الرسائل، فهم كما يقولون كتّاب لا سعاة بريد.



اقرأ أيضاً: بهلوان

المساهمون