رسائل ميانمار الدامية

13 سبتمبر 2017
(نزوح أبناء الروهينغا، تصوير: دان كيتوود)
+ الخط -

يظهر أمر القبض على نقطة صفر الأحداث الكبرى في التاريخ أمراً صعباً وشائكاً للغاية، بل ويزداد صعوبة إذا استدخلت المركبات التاريخية والثقافية نفسها في القضية، محور البحث والتعليق، من هذه الزاوية بالتحديد تحاول السلطات المسؤولة فعلاً عن الأزمة الإنسانية في ميانمار أن تصنع دعايتها التي تقدّمها للعالم حول ما لحق بأبناء الروهينغا في إقليم الراخين من عسف مكثف وصل في معظم مراحله إلى حدود الجريمة المنظمة.

إذ إن البحث في الجانب التاريخي من الأحداث وتبادل القوى الاستعمارية مطلع القرن العشرين أدوار إحكام السيطرة على المنطقة، يجعل من أمر البحث في أصل المأساة وسياقها أمراً بالغاً في التعقيد، لكن تسليط الضوء على الجريمة كأمر واقع، بل ومستمر الحدوث في التاريخ المنظور، أي في سياق العقود الثلاثة الماضية، لا ينفي استمرار الجريمة المتواصلة بحق الأقلية التي لا تتجاوز نسبتها من مجموعة المركبات السكانية حدود الـ4%.

ترتكز قوة الحكم في ميانمار وفي معرض دفاعها عما يحدث من سلسلة الجرائم، إلى الجانب التاريخي من الحدث، أي في النقر المتواصل على دفة الأصول العرقية للقبائل ومعتقداتها ونشوئها، متكئة على قانون المواطنة الذي جرى تصميمه في عام 1982 بما يمنح القوى العنصرية في المجتمع نفوذاً منقطع النظير، وبالتالي ينفي عن أقلية الروهينغا حقها الإنساني بالوجود والاعتراف داخل منظومة الدولة، الأمر الذي وضع الروهينغا في محصلة الأمر بين فكّي كماشة الخيارات الصعبة إما الترحيل أو الإبادة.

في حين تبرز أكثر الشواهد الثقافية المكتسبة من تداعيات الأزمة الأخيرة، في سقوط الكثير من الآراء المسبقة والاستنتاجات المتسرّعة التي تعزو احتكار ثقافة بعينها أو دين بعينه للتطرّف والعنف والإقصاء، إذ يظهر هذه المرة رجال الدين البوذيين الذين يشكلون عمادة الدولة الرئيسية في ميانمار، أسياداً للمأساة الجديدة التي حلت بأقلية الروهينغا، ليبقى سؤال العنف في شكله الأقصى، وإن كان متمثلاً في كونه أداة من أدوات الدولة السياسية بمعزل عن هويتها الدينية، مرجعاً مهماً لتدارك أهم انتكاسات القرن الواحد والعشرين الثقافية.

لكن المقاربة الأهم في ما يحدث هناك، هو في تحوّل هذه الأقلية الصغيرة بـحكم الاستبداد الواقع عليها، إلى أقلية تسعى ووفق أدواتها المتاحة إلى استدعاء أدوات مقاومة الاستعمار، إذ يتحول رجل البوليس الذي يمثل الدولة السياسية إلى مستعمِر في حين استحال المواطن وبكل الكفاءة الممكنة إلى لعب دور المستعمَر، الضحية وفق تصنيف صاحب "معذبو الأرض" فرانز فانون، حيث تذهب قوة الشرطي المحلي إلى لعب دور الوسيط، وسيط السلطة ومخلّفات المصالح الاستعمارية، الذي يتحدث لغة العنف وحدها في مجابهة المستعمَر. لذا، فهو يرى أنه لا سبيل للمصالحة؛ فالصراع بينهما صفري في الأساس وبقاء أحدهما يعني فناء الآخر.

ولعل الكثير مما يحدث هذه الأيام يشير إلى صفرية الصراع بين الأقلية المحرومة من أبسط حقوقها، المواطنة، على تواضع امتيازات هذه المواطنة، وبين النظام الحاكم الذي ما زال يستدعي الكثير من أدبيات عصور الظلام في العسف والجور والتمييز؛ الأمر الذي يحيل إلى قناعة صارت واضحة، أن الصراع وفي أكثر أوقاته تجلياً قد أصبح صفرياً من طرف واحد، بالنظر إلى فجاجة الشواهد التي تدلل على الإمعان في القتل وتهجير مجمعات بشرية كبيرة في أوقات قياسية من البلاد.

لكن الدولة وفي تجلّي شكلها في بعده البوليسي، تبدو ماضية بالأزمة إلى حافتها النهائية، كعنف مكثّف ضد المواطنين، إذ لا تظهر أي شكل من أشكال المحاولة لرأب الشرخ الاجتماعي العميق الذي أحدثته أذرع الدولة الأمنية في الإقليم المهمّش.

من جهتها، يبدو صمت حاكمة البلاد والحائزة للمفارقة على جائزة نوبل للسلام، أونج سان سو تشي، عن كل الذي يحدث ثقيلاً بالقدر الذي يعنيه هذا الصمت من إضفاء للشرعية على أعمال الانتهاك التي تحدث في البلاد، الأمر الذي دفع نشطاء حقوقيين حول العالم إلى المطالبة بسحب الجائزة من صاحبة كتب "التحرّر من الخوف" و"رسائل من ميانمار".

لكن المؤسسة القائمة على الجائزة وبإعلانها المتكرر عن استحالة سحبها تراكم هي الأخرى سيلاً من ملاحظات عن مصداقية هذه الجائزة، ولا سيما أن من بين حائزيها سابقاً مجرمي دولة الاحتلال الإسرائيلي إسحاق رابين وشمعون بيريس وغيرهما، مما حولها إلى لعبة سياسية فجة وصادمة.

وبعيداً من هناك، تواصل الجماهير في المنطقة العربية وقوعها في شرك الصور والفيديوهات المزيفة التي يدّعي أصحابها أنها قادمة من ميانمار، إذ أشار خبراء إلى أن كثيراً من الصور التي يتداولها ناشطون في المنطقة العربية تعود إلى كوارث طبيعية وحرائق وأحداث من مناطق أخرى من العالم، الأمر الذي يمكن فهمه في إطار يأس الجمهور واندفاعه بما يحمله من ذهن الضحية المستدامة الذي يستدعي بشكل كرنفالي كل ما هو جنائزي من أجل تمثيل التضامن، جاعلين من حملات التضامن في شكلها الأساس تستند إلى معطيات تفتقد إلى الدقة والمصداقية، بالإضافة إلى ما يحمله ذلك كله من انتقاص من قيمة الضحايا الذين لم تبرد دماء مأساتهم بعد.

المساهمون