حملت القرارات الإصلاحية لرئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، أول من أمس، العديد من الرسائل. من جهة عكست عدم القدرة على تجاهل غضب الشارع العراقي نتيجة التردي في وضع الخدمات العامة واستشراء الفساد، وهو ما ترجم عبر سلسلة قرارات لم تكن إقالات يوم الأحد الماضي سوى بدايتها، كما بدأ يتضح من التصريحات والتسريبات، التي تتحدث عن خطوات إضافية مرتقبة على مراحل. لكن من جهة ثانية، قدم العبادي الدليل الكافي على مدى تغلغل المؤسسة الدينية في العراق في آلية اتخاذ القرارات، ومدى قوة قراراتها أو إرادتها مقابل قرارات البرلمان والدستور والحكومة أو العملية السياسية برمتها منذ التغيير العراقي الذي بدأ في العام 2003 عقب الاحتلال الأميركي للبلاد.
اقرأ أيضاً العراق: انقلاب أبيض للعبادي
فقبل ساعات فقط من قرارات الأحد، لم يكن أحد من النخب السياسية أو رئيس الحكومة نفسه يستطيع أن يطالب نائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي، بإخلاء القصر الرئاسي الخاص برئيس الوزراء والذي لا يزال يشغله منذ تركه لمنصبه، بسبب ما يملكه الرجل من نفوذ مليشياوي واضح، فضلاً عن سيطرة نجله أحمد وصهره ياسر صخيل على مفاصل حساسة في وزارة الدفاع. وهو ما جعل قرار العبادي عزل المالكي من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية وسحب نحو 1200 عنصر حماية مخصصين له، فضلاً عن امتيازاته المالية مفاجئاً، لكن سرعان ما زال اللبس بعدما كشف المتحدث باسم الحكومة، سعد الحديثي، أن العبادي استند إلى "توجيهات مباشرة من المرجعية"، في إشارة إلى الدعم الذي حظي به من المرجعية الدينية في النجف، وتحديداً المرجع علي السيستاني. وأوضح الحديثي أنّ "الإصلاحات الجديدة والقرارات التي أعلنت فجر الأحد، جاءت بدعم وتوجيهات من المرجعية الدينية التي أعطت زخماً ودفعاً كبيراً لتوجهات العبادي".
من جهته أكد القيادي في "ائتلاف دولة القانون" وعضو البرلمان العراقي جاسم محمد جعفر، وجود دور للمرجعية الدينية في النجف بقوله إن "القرارات سبقتها اتصالات هاتفية جرت بين رئيس الوزراء ومكتب المرجعية العليا بالنجف". وأوضح جعفر، في تصريح لمحطة تلفزيون عراقية محلية، أنّ "العبادي اتفق مع المرجعية على حزمة الاتصالات ونال دعمها، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مصغرة تضم خبراء ومستشارين من مكتب العبادي وممثل عن المرجعية لوضع حزمة من الإصلاحات".
كما أشار جعفر إلى أنّ الإصلاحات الجديدة تشمل ثلاث مراحل: الأولى أقرت إلغاء نواب رئيسي الجمهورية والوزراء، في حين تتضمن الثانية دمج الوزارات وترشيق قسم منها. أما المرحلة الثالثة فتشمل إلغاء بعض الهيئات المستقلة والمواقع والمناصب. ولفت إلى أنه "لا يمكن الإعلان حالياً عن تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة، خشية الضغوط السياسية التي قد تمارسها الكتل على رئيس الوزراء لكي يتم تسويف القضية بشكل كامل"، مشدداً على أن "موضوع الإصلاحات منظم وفق جداول زمنية ومحكومة بخطوات محددة".
لكن مصدراً في التحالف الوطني الذي ينتمي إليه العبادي أكد لمراسل "العربي الجديد" في بغداد أنّ العبادي وضع خطة لتعديل الوزارات عبر دمج عدد منها ليصبح عددها 15 وزارة فقط، بدلاً من 27 وزارة كما هو الوضع حالياً. وأوضح المصدر أنّ "العبادي سيطرح خطة الترشيق الوزاري على مجلس الوزراء خلال جلسة الثلاثاء (اليوم) للتصويت عليها"، مبيناً أنّ "العبادي سيسعى للحصول على تصويت مجلس الوزراء من دون أن يكشف لهم عن أسماء الوزارات التي ألغيت والتي دمجت".
وقد نالت قرارات العبادي بمجملها ولأول مرة إجماعاً شعبياً عراقياً حتى تكاد تكون القرارات الوحيدة التي حظيت بهذا الإجماع. كذلك حظيت القرارات بأغلبية سياسية مريحة، ترجمت بمواقف الكتل السياسية. وهو ما يشير إلى أن الكتل البرلمانية لن تقف عائقاً أمام تطبيقها، وخصوصاً في حال تطلب تمريرها تعديلاً بالدستور الذي ينص على أن لكلِ من رئيسي الجمهورية والوزراء نائبين يحلان مكانهما في تنفيذ مهام الدولة عند السفر أو المرض.
اقرأ أيضاً: العبادي يواصل الإصلاحات ويستعدّ لتقليص عدد الوزارات
وفي السياق، عقد رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري، أمس الإثنين، اجتماعاً مغلقاً مع رؤساء الكتل البرلمانية البالغ عددها 18 كتلة. وبحسب مصدر سياسي، فإن الاجتماع ناقش قرارات العبادي وورقة الإصلاح المقدمة التي وصلت إليه من رئيس الحكومة، وتم الاتفاق على عقد جلسة خاصة بالبرلمان مساء اليوم الثلاثاء، تكون علنية لمناقشة القرارات قبل التصويت.
وأوضح الجبوري في مؤتمر صحافي عقب الاجتماع أن "مجلس النواب سيحدد وبشكل واضح أسماء أو مؤسسات لغرض محاسبتها لتورطها بالفساد"، مضيفاً "سنمضي بشكل مباشر في عملية استجواب استوفت كل الشروط القانونية اللازمة، لذلك طالبنا رئيس الوزراء بإقالة عدد من الوزراء الذين ثبت عليهم الفساد والتقصير بشكل واضح".
لكن ذلك لم يمنع بعض الكتل من أن تسجل أمس الإثنين مخاوف من أن تكون ورقة الإصلاح الجديدة بداية للتفرد بالقرارات من قبل العبادي على طريقة سلفه المالكي، أو تكون "ترسيخاً لولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية".
وفي السياق تشير المعلومات إلى أن المالكي يتحفظ بشكل غير مباشر على القرارات لعدم مقدرته على رفضها، كونها صادرة بدعم من المرجعية الدينية في النجف وتأييد شعبي كبير. والتحفظ أيضاً ينطبق على كل من نائبي رئيس الوزراء صالح المطلك وبهاء الأعرجي.
في المقابل، كان موقف نائب الرئيس إياد علاوي أكثر وضوحاً، إذ احتج على القرارات من باب خرق العبادي للدستور، وليس من باب الاعتراض على موضوع الإصلاح. وعدّ علاوي، خلال مؤتمر صحافي عقد أمس الإثنين، توجيهات العبادي بإلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والوزراء "خرقاً واضحاً للدستور"، مشيراً إلى أنه "ليس من صلاحيات العبادي تطبيق هكذا قرارات"، قبل أن يستدرك بالقول "نحن مع كل إصلاح يخدم العراق وشعبه، بغض النظر عن طائفته ودينه وقوميته".
كما طالب علاوي بـ"تشكيل حكومة إنقاذ وطني، والدعوة إلى انتخابات مبكرة خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر، في حال لم تنفذ الإصلاحات التي يطالب بها المتظاهرون"، متسائلاً "أين تشريع القوانين المتفق عليها المتعلقة بالمصالحة الوطنية والاجتثاث والمحكمة الاتحادية والعفو العام والأحزاب؟ وأين الحكومة من ملفات تعيين الوكلاء وموظفي الدولة بمقابل مادي؟".
في غضون ذلك، لا يزال كل من موقف نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي، ونائب رئيس مجلس الوزراء روز شاويس، غامضاً، إذ لم يصدر عنهما أي تصريح حتى الآن.
ويرى الخبير القانوني العراقي، سلمان العبيدي، في حديث لـ "العربي الجديد" أنّ القرارات تخالف الدستور بالفقرة الأولى من نظام الحكم، الذي يؤكد أن لرئيس الدولة نائبا ولرئيس الوزراء نائبا، ويمكن أن يختار كل من رئيس الجمهورية والوزراء نائبين، الأمر الذي يتطلب أن يصوت البرلمان أولاً على تعديل هذه الفقرة. وهو ما يعزز المخاوف من تأخير تنفيذ القرارات، وقد يكون طوق النجاة للمسؤولين المستبعدين، ولا سيما مع إتقان الكتل السياسية "التسويف والمماطلة كما عرفناهم". لكن يشير العبيدي إلى أنّ ورقة تأييد المرجعية الدينية للقرارات "قد تؤدي دوراً في القفز على كل هذه العوائق، فإرادتها أقوى من الآخرين". ويلفت العبيدي إلى أن "رئيس الوزراء العراقي، على ما يبدو، قد درس جميع التبعات لقراره، واعتبر موقف المرجعية المؤيد له سيساعد في تمرير تلك القرارات بل وفرضها".
من جهته، يقول القيادي في الحزب الشيوعي العراقي، مازن الخالدي، إنّ "الصورة التي خرجت بها القرارات تثير مخاوف لدينا مما بعدها". ويوضح الخالدي أنه "من دون شك القرارات تاريخية، لكن المحزن أن العبادي لم يكن قادراً على اتخاذها لولا سلطة ونفوذ المراجع الدينية، وهذا بحد ذاته خطر يرسخ بشكل أو آخر ولاية الفقيه الموجودة في إيران اليوم، ولا يبعث برسائل اطمئنان للأكراد أو السنة والمسيحيين وباقي الطوائف العراقية".
ويرى محمد الجبوري، القيادي في التجمع العربي العراقي وهي إحدى الكتل السياسية العراقية في كركوك، أنّ "القرارات محاولة لامتصاص غضب الشارع الذي ملّ من الأحزاب الإسلامية التي لم تقدم شيئا له حتى الآن سوى الوعود ومزيد من الفساد والثراء على حساب الفقراء". ويضيف الجبوري "أعتقد أنّ القرارات ممتازة، لكنها بنفس الوقت لم تتخذ إلا بعد تعالي الأصوات ضد الطبقة الدينية الحاكمة للعراق. وهو ما يهدد الأحزاب الإسلامية ومستقبلها بالعراق، لذا لا مانع من التضحية بعدد منهم مقابل إسكات الشارع أو إبلاغه أنهم يصلحون الآن".
ويعتبر الجبوري أن "الإصلاح الحقيقي هو أن يعي الجميع أن العراق يجب أن يحكم من نظام وطني يؤمن بمبدأ الأمة العراقية. أما غير ذلك فكله يعد ترقيعاً".
اقرأ أيضاً: الجوع يهدد مليوني نازح في العراق