انتخب الشعب الأرجنتيني عام 2007 كريستينا فرنانديز كيرشنر خلفاً لزوجها، الذي فضل عدم الترشح بعدما أنقذ بلاده من أكبر أزمة ديون في التاريخ، لتترأس البلاد لثماني سنوات كاملة، قبل أن يودعها الشعب بالدموع.
ورغم حب الجماهير لها، إلا أن عامها قبل الأخير في السلطة شهد امتناع الأرجنتين عن تنفيذ حكم محكمة أميركية بسداد كامل قيمة السندات لصناديق التحوط الأميركية، في ما اعتُبرت وقتها ثامن حالة إفلاس للبلاد.
وفي 2015، انتخب الشعب موريسيو ماكري، الذي وعد بإنقاذ الأرجنتين من أزماتها، وأيد انفتاح بلاده على العالم الخارجي بعد أكثر من عقدٍ كامل من العزلة الاقتصادية، وأكد قدرته على مكافحة الفقر الذي طاول الشعب المحب للحياة، وعلى تخفيض معدلات التضخم التي كانت الأعلى بين بلدان العالم.
رفع ماكري القيود على شراء وتحويل العملات الأجنبية، وأنهى نزاعاً استمر لعقد ونصف من الزمان مع من أقرضوا الأرجنتين ولم يستردوا أموالهم، لتعود بعدها الدولة التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية إلى الأسواق العالمية، وتتمكن من إصدار السندات.
وقبل نهاية عام 2016، خرجت الأرجنتين رسمياً من الركود، لتصدر في العام التالي سندات مدتها مائة عام، فيتهافت عليها المستثمرون، طالبين أكثر من ثلاثة أضعاف القيمة التي عرضتها الحكومة للبيع.
لكن الأمور لم تسر في المسار الذي وعد به ماكري، فلم يتحقق الرخاء، واستمر الملايين في المعاناة من فقر مدقع، مع انتشار البطالة وارتفاع مستويات التضخم لأكثر من 55%، بسبب ارتفاع الديون الخارجية واستمرار عجز الموازنة.
وفي 2018، وقعت حكومة الأرجنتين اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي، يسمح لها بالحصول على حزمة إنقاذ تقدر قيمتها بستة وخمسين مليار دولار، هي الأضخم في تاريخ المؤسسة الدولية، مقابل اتخاذ الحكومة بعض الإجراءات التقشفية، وتعهدها بتحرير العملة، وبيع بعض الشركات العامة، إلى آخره من روشتة الصندوق المعروفة للدول النامية.
وكان طبيعياً أن يدفع ماكري ثمن اختلال أولوياته وفشل سياساته، فجاءت نتيجة الانتخابات التمهيدية الشهر الماضي لتؤكد ضعف فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها خلال الأسبوع الأخير من الشهر القادم، مع اقتراب مرشح المعارضة ألبرتو فرنانديز من الحسم.
لم يفرح المستثمرون بنتائج الانتخابات التمهيدية، حيث سادت التوقعات بعودة النموذج الشعبوي الذي عرفوه خلال العقد الأول من القرن، بسياساته المدافعة عن حقوق الفقراء، على يد فرنانديز الأقرب للفوز، والذي أعلن اختيار الرئيسة السابقة كيرشنر نائبة له، ليكون الاثنان معاً فريقاً يهدد خطط الطبقة الثرية ومستثمري أسواق المال وصندوق النقد لاستباحة اقتصاد البلاد.
لم يفرح هؤلاء بنتائج أعلنت اقتراب فوز المرشح الذي تعهد بإعادة التفاوض مع صندوق النقد على مواعيد سداد القرض الضخم، وعلى إجراءات الإصلاح التي يطلبها، من خفض الإنفاق الحكومي الاجتماعي، وتقليل الدعم، وبيع حصص الحكومة في الشركات. لم يعجبهم توجهه المعروف نحو الحفاظ على قيمة العملة المحلية، وخفض معدلات الفائدة عليها، التي هي الأعلى في العالم، فانتفضوا للدفاع عن مصالحهم.
وكما حدث في بعض بلداننا العربية، بعدما أتت الصناديق بمن لا يحبهم الأقوياء في الداخل والخارج، اتفق الرافضون على ما يشبه الانقلاب الاقتصادي، الذي لا يمكن إنكار أن الأوضاع كانت ممهدة له بصورة كبيرة.
وفي اليوم الذي تلا إعلان نتائج الانتخابات التمهيدية، فقدت العملة الأرجنتينية أكثر من 30% من قيمتها، وخلال أيام، خسر البنك المركزي ما يقرب من خمس احتياطي النقد الأجنبي لديه، وتكبدت الأسهم والسندات خسائر فادحة، وعادت إلى الأذهان ذكريات حالات الإفلاس السابقة التي مرت بها البلاد، وما نتج عنها من مآس للملايين من الطبقة الفقيرة والمتوسطة.
ويوم الأربعاء الماضي، فاجأ البنك المركزي الأرجنتيني الأسواق بالإعلان عن رغبته في إعادة جدولة أكثر من مائة مليار دولار من الديون، من بينها ما تم الاتفاق على اقتراضه من صندوق النقد الدولي العام الماضي، لتخفض أكثر من وكالة للتصنيف الائتماني تقييمها للدولة اللاتينية، وتعلن وكالة ستاندارد آند بورز إفلاس الأرجنتين.
ويوم الأحد الماضي، فرض البنك المركزي قيوداً على شراء وتحويل العملات الأجنبية، للشركات والأفراد، فأوفد صندوق النقد فريقاً للتباحث بشأن خطط إدارة الأزمة، بعدما رأى في التطورات الأخيرة انتكاسة لخططه المتعلقة بالدولة المأزومة.
ولا يعرف أحد على وجه اليقين ما ستؤول إليه الأمور خلال الأشهر المقبلة، إلا أن هناك تخوفا واضحا من انهيار اقتصادي جديد في البلاد.
الأزمة الأرجنتينية الحديثة تبعث بالعديد من الرسائل إلى من يهمه الأمر، أولاها أن الدول التي تتوسع في الاقتراض، وتحديداً من الخارج، تكون كمن يلف الحبل حول رقبته.
وإذا لم يتم إنفاق تلك القروض على مشروعات إنتاجية تخلق فرص عمل، وتزيد الصادرات، وتسمح بتوليد تدفقات نقدية بالعملة الأجنبية، ليتم من خلالها سد ما تم اقتراضه، وتحسين وضع ميزان المدفوعات، فإنها تكتب نهايتها المحتومة بأيديها.
أما آخر وأهم الرسائل فهي عدم الثقة في برامج المؤسسات الدولية على طول الخط، لأن تلك المؤسسات يتحكم في سياساتها مستثمرون لا يرغبون إلا في استنزاف ثروات الدول النامية، خاصة في فترات التحول الاقتصادي، التي تشهد وضع الشركات المحلية والعملات المحلية ومعدلات الفائدة عليها على موائدهم، فيختارون منها ما يشاؤون، قبل أن يغادروها إلى مائدة أخرى، ليكرروا معها السيناريو نفسه، وهم في دفاعهم عن فرص التربح في كل واحدة من تلك الدول لا يقلون شراسة عن حيوانات الغابة، التي تعرف أن بقاءها مرهون بانتهاز تلك الفرص، أينما ووقتما تظهر، في أي بقعة حول العالم.