ردا على رد صقر أبو فخر.. الدولة الفلسطينية الواحدة أم المثقف النرجسي؟

08 فبراير 2019
+ الخط -

"ونُنكِرُ، إن شئنا على الناس قولهم، ولا ينكرون القولَ حين نقولُ"
السموأل
يتحدث الكاتب صقر أبو فخر، في مقالته "رد على تعقيبين.. الدولة ثنائية القومية في فلسطين"، في "العربي الجديد"، في 23/12/2018، عن عدم دقة حديثي عن تبلور الوطنية الفلسطينية الحديثة في أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم، ويدّعي أن الوطنية والكيانية الفلسطينية تعود إلى ثلاثينيات ذلك القرن، عِلماً أنّ الوطنية الفلسطينية ما قبل النكبة لم تكن تتطابق مع الوطنية الفلسطينية الكيانية لسنوات الخمسينيات، والتي كانت "فلسطيننا" وحركة فتح عموماً، مصدر تنظيرها وبثها.
المغالطة الأولى التي يقعُ بها الكاتب مماثلة "الوطنية" بـِ"الفكرة الكيانية"، والتي كانت غايةً في الخفوت، ولم تحملها قوىً اجتماعية أو سياسية في ما قبل النكبة. الفكرة الكيانية الفلسطينية منتوج حديث للغاية ووليد لحظته التاريخية الخصوصية بمواجهة النظام الرسمي العربي، وتتميزُ بتقديمها الوطنية الفلسطينية، معطىً منفصلا عن الفكرة القومية العربية (تحرير فلسطين مدخل لتحقيق الوحدة العربية، وليست الوحدة العربية رافعةً لتحرير فلسطين المنشود). لم تكن الوطنية الفلسطينية منذ العشرينيات حتى الأربعينيات فكرة كيانية كالتي شهدناها بعد النكبة، والتي أصبحتْ تُصِرُ، وبإلحاحٍ، على الخصوصية الفلسطينية، وعلى الانفصال بين العاملين القومي العربي والفلسطيني المحض.
هنا، يمكن القول إن الكتابة الصحافية المُتسرعة لصقر أبو فخر جعلته يخلط ما بين الحابل والنابل، من دون مراعاة للحدود الدنيا للكتابة العلمية، ففلسطين كسورية الجنوبية، أو كجزءٍ من مملكة عربية لم تر النور يوماً، ليست هي فلسطين الكيانية الفتحاوية تحديداً.
المغالطة الثانية تكمنُ في اتهامي بعدم الدقة في تحليلي ظاهرة تبلور "الوطنية الفلسطينية" في أوائل الخمسينيات. ويعلمُ القاصي والداني أن فكرة التبلور تحمل فكرة الانتقال من حالٍ إلى حال، أي البناء على ما سبق، لتحقيق الارتقاء النوعي باتجاه مزيدٍ من التماسك وامتلاك عناصر القوة. نعم، الوطنية الفلسطينية سابقة للنكبة، لكنها وطنية كيانية في ما بعد النكبة، وإن اعتمدت اللاحقة على السابقة، وهذا في طبيعة الأحوال، ولن يستطيع الكاتب أن ينسب إلي ما لم تقله مقالتي بهذا الشأن.
يتابع صقر أبو فخر، واستناداً إلى إشاراتٍ تاريخيةٍ لمواثيق ومؤتمرات تعود إلى الثلاثينيات، ليوحي بمعرفته بموضوعه، ولا يعلم أن موضوع الكيانية الفلسطينية كان مادة البحث 
لأطروحتي في الدكتوراه، وحيث أمضيت في كتابتها سنوات أربع قضيتها في البحث والتنقيب في كبريات المكتبات الدولية ما بين أوروبا والولايات المتحدة. مئات الكتب والوثائق، والتي لن أذكر إلا ما كان بالعربية منها، هي السند المتين لتحليلي التاريخي والسوسيولوجي الدقيق لتطور الفكرة الكيانية الفلسطينية، والتي أنصح صقر أبو فخر بمراجعتها، لكي يصبح بدوره أكثر دقة:
• الأعداد الكاملة لصحيفة العرب، منذ صدورها عام 1932 وكانت بمثابة المنبر الناطق باسم حزب الاستقلال، وهو الابن الشرعي للفرع الفلسطيني من جمعية العربية الفتاة، رائدة الطرح القومي العربي. لم يتورّط حزب الاستقلال العروبي في معمعان الصراع الحسيني ـ النشاشيبي. وعلى صفحات "العرب"، بَرَع كتاب لهم باع طويل في ميادين الإنتاج الفكري والسياسي، كشكيب أرسلان، عبد الرحمن عزام، أكرم زعيتر، محمد عزّة دروزة، إضافة إلى مؤسس الحزب، عوني عبد الهادي.
• وثائق ومذكرات عصبة العمل القومي، وكتابات سكرتيرها الأول، علي ناصر الدين، بيانات ووثائق المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس.
• وثائق تعود إلى اللجنة التنفيذية وإلى الهيئة العربية العليا، وحكومة عموم فلسطين.
• أعداد مجلة فلسطين ومجلة حيفا للحزب الشيوعي.
• عشرات الكتب عن قضايا تلك الفترة الحرجة في تاريخ فلسطين، منها كـتب شوقي خير الله، عيسى الناعوري، حسين قاسم العزيز، زهير المارديني، عادل حسن غنيم، عبد الكريم غرايبة، موسى العلمي، محمد جميل بيهم، عبد الوهاب الكيالي، إميل الغوري، عيسى السفري.. إلخ، والقائمة قد تطول.
خلاصة القول، تحمل القراءة التحليلية المتأنية لهذه الوثائق التاريخية إضاءة تفصيلية لواقع حال الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية في ذلك الزمن، بما هي عليه من حركة وليدة، طرية العود وضعيفة البنيان، لارتكازها على تجمعات "عصبية" (بالمعنى الخلدوني)، متباينة المصالح، بل ومتناحرة في ما بينها أحياناً أخرى. نواة الحركة الوطنية، مدنية (من المدينة بالتعارُض مع الأرياف) الطابع وذات السمات التوارثية لأمجاد وسلطة وسطوة السلف العائلي لعصبياتٍ الأعيان والوجهاء، وهذا جعل من الحركة الوطنية جسماً هشّاً منقسماً على ذاته، وموضوعاً للتلاعب البريطاني الصهيوني بمصائره. ما قاله القائد المقدسي، موسى كاظم الحسيني، يُلخِصُ حال الحركة الوطنية الوليدة: "حركة وطنية ميّتة، بسبب انهماك رجال الأمة في القتال على الوظائف، وتفضيلهم مخاصمة الأنداد على خدمة البلاد".
الانخراط الفلاحي الواسع في النضال المسلح ضد قوات الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية، رافقه انخراطٌ مدينيٌّ واسع في أشكال النضال السلمي. وعلى الرغم من التضحيات الهائلة للريف وللمدينة معاً، لم ترتق الممارسة السياسية للنخب الفلسطينية إلى مستوى التجاوب البناء مع حجم هذه الثورة الوطنية العارمة، وذلك لكي تضع جانباً انقساماتها لكي تقود هذه الثورة المباركة.
القيادة الوطنية للمفتي الحاج أمين الحسيني، ومجمل قيادات "الحزب الفلسطيني العربي" لم تتمكّن أبداً من دحرِ رغبات الحلف النشاشيبي (دجاني، شقيري، فاروقي، برغوثي.. إلخ)، بانتزاع قدرٍ أكبر من تمثيليته الشارع الفلسطيني.
حافظ "حزب الدفاع" النشاشيبي على دوره التخريبي للبنية الداخلية للوطنية الفلسطينية، بمنعها من التبلور باتجاه قليل من المركزة الضرورية لتنظيم النضال الفلسطيني. وبدلاً من التوجه إلى الجبهة الخارجية، ألقت الانقسامات العصبية بظلالها المأساوية على الوضع الفلسطيني العام، لتجعل منه ساحة مواجهةٍ ما بين هذه العصبيات العاجزة عن إنتاج قيادةٍ وطنيةٍ مُعترفٍ بشرعيتها وتمثيليتها الكل الفلسطيني.
إشارات صقر أبو فخر إلى قرارات المؤتمرات الوطنية في 1919 و1929 والمواثيق 
المتعددة، لا تعني الكثير، فهي لم تكن سوى حبر على ورق، إذ تقوم تلك القيادات التي صاغتها بممارساتٍ معاكسةٍ لها خارج هذه المؤتمرات الحافلة. لم تساهم هذه المواثيق بلحمة الصف الوطني، وتقليص هوة الانقسام، كما لم تساهم بإلحاق فلسطين بقطار الوحدة العربية، في ظل الانقسام الآخر في سورية والعراق، حيث يتناحر رفاق الدرب القومي العربي بدورهم على تقاسم كعكة السلطة السايكسبيكوية الموعودة.
كانت عزلة القومي العربي النابلسي، عوني عبد الهادي، وضعف حزبه (الاستقلال) بمواجهة العصبيات المقدسية العريقة، ولكن المتناحرة ما بينها، عزلة لا مفكّ منها في ظلِ عجز الزعامات السورية والعراقية عن نجدة رفيق الأمس، شريكهم في قيادة جمعية العربية الفتاة، ياسين الهاشمي، في حربٍ مفتوحةٍ ضد نوري السعيد في العراق وجميل مردم بيك في حرب أخرى مع إبراهيم بيك هنانو في سورية.
وهكذا، كان المشهد الفلسطيني يدورُ في أفق مغلق، لعدم توفر الشروط الموضوعية والذاتية والإقليمية لبروز محور استقطاب ثالث للخروج من عنق الزجاجة. تناحر العصبيات العائلية والمناطقية والجهويات المتماثلة في القوة والنفوذ، سبق أن اعتبرها ابن خلدون في القرن الرابع عشر عاملاً معيقاً لبروز الدولة، وهذا ما كانت عليه هذه العصبيات الفلسطينية في القرن المنصرم. ومن ذلك أن فخري النشاشيبي بلغ به الأمر حداً لنشر مقالٍ في "التايمز" اللندنية ليعلن فيه أن المفتي لا يمثل فلسطين. بل ونكايةً به، يُعلنُ النشاشيبي رغبته في التعاون مع سلطات الانتداب البريطاني، ومع الوكالة اليهودية. ولا يتأخر رجال المفتي بالرد على هذه "الخيانة الكبرى"، إذ ينظّمون عملية اغتياله في بغداد، إضافةً إلى عمليات اغتيالٍ طاولت رموز المعارضة النشاشيبية وحلفائها، وصولاً إلى بعض مخاتير القرى وبعض الأعيان والوجهاء، ممن هم محسوبون على التيار النشاشيبي.
وهكذا ما كان لانتصارات الثورة الفلسطينية الكبرى ما بين 1936 و1939 إلا أن تتلاشى وتذهب أدراج الرياح، بدلاً من إفراز قيادة وطنية بحق. الإضراب الشامل في 15 مايو/ أيار 1936 وما أعقبه من مظاهراتٍ ومواجهاتٍ مع قوى الاستعمار البريطاني ـ الصهيوني في كل مدن فلسطين، أعقبه انطلاق العمل المسلح في الأرياف الفلسطينية، والتي كانت معارك عين حارود، وادي عزون، بلعا، وادي عرعرة، ترشيحا، من أهمها. وفي هذا الوضع الثوري المتفجر، لاحت في الأفق بعض الآمال بتجاوز الخلافات العصبية لقيادة العمل الوطني، إثر تشكيل اللجنة العربية العليا، والتي ضمت قيادات حسينية ونشاشيبية وخالدية، ولكن سرعان ما عاد التناحر ليطفو على السطح، وما كان تحول فخري عبد الهادي، من قائدٍ للثورة إلى قائدٍ للثورة المضادة على رأس "فصائل السلام"، وذلك لاجتثاث الثورة الريفية في جبال نابلس وجنين، وعلى امتداد منطقة المثلث، إلا أكثر الشواهد مأساويةً في واقع هذه الحركة الوطنية الشهيدة وحالها.
هذه هي الحالة الفعلية للحركة الوطنية قبل النكبة، وطنية ملغومة بجملة عوامل موضوعية مُستمدة من السوسيولوجيا الفلسطينية، بتاريخيتها الخصوصية، وبفعل تمفصل هذا الشرط الذاتي مع الشروط الدولية للتقاسم الكولونيالي للمنطقة، ولذلك الدور الكبير الذي لعبته الحركة الصهيونية في هذا الإطار المعقد. وما كان لهذه الحالة إلا أن تُسهل من خطط الخصم الصهيوني في تحضيراته لإعلان دولته، وإحداث النكبة الفلسطينية المريعة، نكبة شتّتت بدورها رموز انقسامات الأمس العصبي، والتي فقدت الأرضية المادية لِخلافاتها، وذلك إثر انهيار المجتمع الفلسطيني برمته، واحتلال أرضه وتمزيق نسيجه الاجتماعي وبناه الاقتصادية. أصبح المفتي الحاج أمين الحسيني لاجئاً، وتحوّل الحزب النشاشيبي إلى مناصرة الإمارة الهاشمية في طموحاتها للاستحواذ على ما تبقى من فلسطين (مؤتمر أريحا في ديسمبر/ كانون الأول 1948 لمبايعة "فلسطينية" للأمير عبد الله)، وما كان تولي راغب باشا النشاشيبي حقيبة وزارة اللاجئين إلّا من سخرية الأقدار، حيث ساهمَ بسياساته القاتلة في وأد النضال الوطني الفلسطيني، والذي أسفر عن ضياع فلسطين وتشرّد أهلها وتحولهم لاجئين.
هذه هي الوطنية الفلسطينية، وهذا هو حالها الذي يبدو غائباً عن ذهن صقر أبو فخر، والذي 
يتهمني بعدم الدقة في حديثي عن الوطنية الفلسطينية، فيما عدم الدقة هي سمة كتاباته الصحافية المُتعجلة، والتي تتورطُ، إضافةً إلى عدم دقتها، بالقيام باستعراض نرجسي لذات الكاتب في معرض الحديث عن نفسه، للتشكيك بمُساهمة المُتهَم (والذي هو أنا) في العمل الوطني. وإضافة إلى هذه العنتريات، يستخدم تعابير لا تليق بتقاليد الكتابة الصحافية الجادة، وذلك لاتهامي بالدلع السياسي وبالدلال الثقافي، وبغربتي عن الحدث الفلسطيني (يخاطبني بالقول "أين كنت طوال تلك السنين وهل أسهمت في هذه النضالات؟")... إلخ.
وهنا، يمكن أن أقول له: نعم، قد أكون أسهمتُ بالنضال الوطني أكثر منك، وقد تكون جروحي أكثر غوراً من الخدوش التي عانى منها جسدك، ولن أتورّط مثلك بالشخصنة لذات المثقف المتضخمة، والتي تمنحُ نفسها الحق بسوق اتهاماتٍ لا أساس لها. أنا لستُ بالغريب الذي تتصوّره أنت، لقد تقاطعنا في أكثر من مكان في أحياء "جمهورية الفاكهاني" ما قبل 1982 وفي مكاتبها (مجلة "نضال الشعب" تحديداً)، وعايشنا معارف مشتركة، وقد نكون تردّدنا معاً على دكانة أبو محمد الكبّة قرب الجامعة الأميركية في بيروت. فمهلاً، عليك ألا تتسرّع بتضخيم "الأنا" النرجسية، لكي لا تحتل هذه الشوائب مشهد النقاش الجديّ بخصوص "الدولة الواحدة"، ولكي لا تسد هذه الغضائض آفاقه.
EE503FC4-A9AE-4A40-BF7D-F411F13745A8
EE503FC4-A9AE-4A40-BF7D-F411F13745A8
ناجي الخطيب

باحث وأكاديمي فلسطيني يعيش في فرنسا وإيطاليا. كتبَ عشرات المقالات الصحافية والبحوث وآخر كتابين صدرا له هما: "التعددية ‏الفكرية والمنهجية: المنقذ من الضلال"، 2016 و"الجندر أو النوع الاجتماعي المعولم"، 2015.‏

ناجي الخطيب