رحلت منى مرعشلي، الفتاة البيروتية التي عاشت صراعاً وتحدياً كبيراً حتى تصبح نجمة غنائية كبيرة. لكنها، وطبقاً لظروف كثيرة عاشتها، توقفت عن الغناء، وسكنت في منزلها البيروتي، إلى جانب والدتها التي رحلت قبل أشهر.
فتحت منى مرعشلي عيونها على الطرب الأصيل، واستطاعت وهي دون العاشرة، أن تحفظ أغنيات عمالقة الغناء العربي، وكأنها تخصصت بالفطرة بأغنيات أم كلثوم. تنتمي منى مرعشلي إلى عائلة بيروتية مُحافظة، لم يكن والدها يرغب في احترافها الغناء، لكن تشجيع الأصدقاء لموهبتها سمح لها بدخول برنامج المسابقات "استديو الفنّ 73"، الذي قدمه المخرج اللبناني سيمون أسمر، لأكثر من عشرين عاماً، وكان مدخلاً لعدد من نجوم الغناء العربي اليوم، نذكر منهم ماجدة الرومي، ووليد توفيق وراغب علامة وعبد الكريم الشعار وعاصي الحلاني ووائل كفوري. لكن مرعشلي رمت خوفها بعيداً عن استديوهات تلفزيون لبنان منتصف العام 1973، وأدت رائعة السيدة أم كلثوم "أنت عمري" وحصدت إعجاباً كبيراً، وأصبحت خلال أيام حديث الساعة.
سنتان، بعد استديو الفن، واندلعت الحرب اللبنانية. لكن المخرج سيمون أسمر وإيمانا منه بموهبتها، كان الداعم الأساسي لها ولمجموعة من الفنانين الذين تخرجوا بميداليات ذهبية وفضية. منى مرعشلي قفزت إلى الشهرة في أغنية واحدة وسبقت زملاءها في "شمس المغارب"، من نظم محمد العجمي، وألحان الموسيقار نور الملاح. واستطاعت أن تكرس نفسها مطربة بلون غنائي خاص. إذ قصّرت الأغنيات الطويلة، إلى سبع دقائق فقط. عبرت منى مرعشلي الامتحان الصعب، ووصلت شهرتها إلى القاهرة، وسمعتها مجموعة من الموسيقيين الذين أثنوا على موهبتها الاستثنائية. سمعها للمرة الأولى الموسيقار الراحل بليغ حمدي، في بيروت، وكان وقتها يقوم بتسجيل أغنيات للفنانة السورية، ميادة الحناوي، بعدما هجر القاهرة، وقسّم إقامته ما بين اليونان وبيروت. وقال وقتها بليغ حمدي "أنا مستعد أن أتفرغ لهذه الموهبة"، لكن الظروف حالت أيضاً دون لقاء منى مرعشلي بالموسيقار الراحل. والتقاها الموسيقار سيد مكاوي، في بيروت في الثمانينات، ونصحها بالقدوم إلى القاهرة كي تجد ما يناسبها مع ملحنين مخضرمين، واضعاً كافة إمكاناته الفنية بتصرفها.
كل هذه العروض والشهادات، التي قُدِّمَت لمنى مرعشلي، كانت تذهب هباء، لأسباب كثيرة، منها الحرب في لبنان، وتقيّد مرعشلي بأجواء العائلة التي ما كانت يوماً لصالح موهبتها الفنية. خاف أشقاؤها كثيراً من عالم الفنّ والغناء والسفر. ولم يكن بإمكانها الإفلات من قبضة العائلة، حتى بعد دعم الأخوين رحباني لموهبتها، وإصدار ألبوم غنائي كامل باللهجة اللبنانية حمل صوتها وحسن أداءها. وكذلك فعلتها مع زياد الرحباني في أغنية "تركني انسالي اسمي"، وهي واحدة من أجمل الأغنيات التي وسمت مسيرتها الفنية، واستطاعت أن تغني تجاربها الفنية إلى منتصف الثمانينات، المرحلة التي تُعتبَر من أقوى مراحل وحضور منى مرعشلي، سواء على صعيد الحفلات، أو تقديم أغنيات جديدة. سجلت مرعشلي رغم الحرب، بعض الأعمال، مع الملحن الراحل، فيصل المصري، منها "علشان عيونك" و"لك شوقة عندنا" وغيرها، والتي استطاعت أن تنافس بها زملاءها الذين وظفوا أعمالهم لصالح استمرارهم الفني، ولم يغيبوا أو يتغيبوا يوماً عن الساحة الفنية ولا عن الإعلام.
لم تكن مرحلة التسعينيات جيدة بالنسبة لمسار منى مرعشلي الغنائي والفني. بعض المقابلات الفنية الخجولة التي كانت تظهر بها لم تأت بجديد لجمهور كان ينتظر منها المزيد من التفاعل، والدخول في عصر التجدد الغنائي. ربما لم تكن منى مرعشلي وحدها التي فضلت الابتعاد، بعض زملائها أيضاً ابتعدوا، مثل عبد الكريم الشعار الذي هاجر إلى الطرب الأصيل فقط، وإقامة أمسيات خاصة على المسرح. وكذلك الفنان، أحمد دوغان، الذي كان الأقرب لمرعشلي نظراً لصلة القرابة بينهما. وغاب أيضاً، مايز البياع، الذي نال شهرة واسعة في الثمانينات. واتجه ربيع الخولي من ناحيته إلى اعتزال الفنّ ودخول الرهبنة.
اقــرأ أيضاً
تعترف منى مرعشلي بأنها غيبت نفسها بإرادتها فنياً واجتماعياً، بسبب حالة صحية عانت منها خلال السنوات الأخيرة. تقول إنها أتعبت صوتها قليلاً، وكذلك ملازمتها لوالدتها قبل رحيلها.
هكذا شعرت مرعشلي بالغربة الفنية. وأهملت شركات الإنتاج المستجدّة التي لم تكن بالنسبة لها هدفاً كما حصل مع زملائها. كانت ترفض معظم العروض التي تُقدَّم لها دون أسباب، على الرغم من متابعتها الحثيثة للأجواء الفنية، قبل اعتزالها الإرادي، فغلبها التعب النفسي بسبب العياء والحزن على رحيل والدتها، قبل شهر واحد.
لم تفكر منى مرعشلي يوماً بأن الفنّ مهنة، أو مصدراً للمال. على العكس تماماً، طوال فترة احترافها، كانت تظهر كهاوية، لم تعش النجومية بالمطلق، ولم تهتم بالتفاصيل الضرورية لحياة مغنية نالت شهرة كبيرة في بداياتها ما بين بيروت والقاهرة. لم تغرها حياة الليل. ولم يُسعفها العمر لعودة مرتقبة تحمل مزيداً من الإنتاج الغنائي، رغم كل الدعوات. بل كانت تطمئن من بعيد على بعض الأصدقاء في مجال الفنّ، ومنهم على وجه الخصوص المخرج سيمون أسمر، وترفض إجراء مقابلات تلفزيونية مدفوعة، حتى رحلت أمس عن 58 عاماً تاركة مجموعة قليلة من أغنيات ذات قيمة فنية عالية.
اقــرأ أيضاً
فتحت منى مرعشلي عيونها على الطرب الأصيل، واستطاعت وهي دون العاشرة، أن تحفظ أغنيات عمالقة الغناء العربي، وكأنها تخصصت بالفطرة بأغنيات أم كلثوم. تنتمي منى مرعشلي إلى عائلة بيروتية مُحافظة، لم يكن والدها يرغب في احترافها الغناء، لكن تشجيع الأصدقاء لموهبتها سمح لها بدخول برنامج المسابقات "استديو الفنّ 73"، الذي قدمه المخرج اللبناني سيمون أسمر، لأكثر من عشرين عاماً، وكان مدخلاً لعدد من نجوم الغناء العربي اليوم، نذكر منهم ماجدة الرومي، ووليد توفيق وراغب علامة وعبد الكريم الشعار وعاصي الحلاني ووائل كفوري. لكن مرعشلي رمت خوفها بعيداً عن استديوهات تلفزيون لبنان منتصف العام 1973، وأدت رائعة السيدة أم كلثوم "أنت عمري" وحصدت إعجاباً كبيراً، وأصبحت خلال أيام حديث الساعة.
سنتان، بعد استديو الفن، واندلعت الحرب اللبنانية. لكن المخرج سيمون أسمر وإيمانا منه بموهبتها، كان الداعم الأساسي لها ولمجموعة من الفنانين الذين تخرجوا بميداليات ذهبية وفضية. منى مرعشلي قفزت إلى الشهرة في أغنية واحدة وسبقت زملاءها في "شمس المغارب"، من نظم محمد العجمي، وألحان الموسيقار نور الملاح. واستطاعت أن تكرس نفسها مطربة بلون غنائي خاص. إذ قصّرت الأغنيات الطويلة، إلى سبع دقائق فقط. عبرت منى مرعشلي الامتحان الصعب، ووصلت شهرتها إلى القاهرة، وسمعتها مجموعة من الموسيقيين الذين أثنوا على موهبتها الاستثنائية. سمعها للمرة الأولى الموسيقار الراحل بليغ حمدي، في بيروت، وكان وقتها يقوم بتسجيل أغنيات للفنانة السورية، ميادة الحناوي، بعدما هجر القاهرة، وقسّم إقامته ما بين اليونان وبيروت. وقال وقتها بليغ حمدي "أنا مستعد أن أتفرغ لهذه الموهبة"، لكن الظروف حالت أيضاً دون لقاء منى مرعشلي بالموسيقار الراحل. والتقاها الموسيقار سيد مكاوي، في بيروت في الثمانينات، ونصحها بالقدوم إلى القاهرة كي تجد ما يناسبها مع ملحنين مخضرمين، واضعاً كافة إمكاناته الفنية بتصرفها.
كل هذه العروض والشهادات، التي قُدِّمَت لمنى مرعشلي، كانت تذهب هباء، لأسباب كثيرة، منها الحرب في لبنان، وتقيّد مرعشلي بأجواء العائلة التي ما كانت يوماً لصالح موهبتها الفنية. خاف أشقاؤها كثيراً من عالم الفنّ والغناء والسفر. ولم يكن بإمكانها الإفلات من قبضة العائلة، حتى بعد دعم الأخوين رحباني لموهبتها، وإصدار ألبوم غنائي كامل باللهجة اللبنانية حمل صوتها وحسن أداءها. وكذلك فعلتها مع زياد الرحباني في أغنية "تركني انسالي اسمي"، وهي واحدة من أجمل الأغنيات التي وسمت مسيرتها الفنية، واستطاعت أن تغني تجاربها الفنية إلى منتصف الثمانينات، المرحلة التي تُعتبَر من أقوى مراحل وحضور منى مرعشلي، سواء على صعيد الحفلات، أو تقديم أغنيات جديدة. سجلت مرعشلي رغم الحرب، بعض الأعمال، مع الملحن الراحل، فيصل المصري، منها "علشان عيونك" و"لك شوقة عندنا" وغيرها، والتي استطاعت أن تنافس بها زملاءها الذين وظفوا أعمالهم لصالح استمرارهم الفني، ولم يغيبوا أو يتغيبوا يوماً عن الساحة الفنية ولا عن الإعلام.
لم تكن مرحلة التسعينيات جيدة بالنسبة لمسار منى مرعشلي الغنائي والفني. بعض المقابلات الفنية الخجولة التي كانت تظهر بها لم تأت بجديد لجمهور كان ينتظر منها المزيد من التفاعل، والدخول في عصر التجدد الغنائي. ربما لم تكن منى مرعشلي وحدها التي فضلت الابتعاد، بعض زملائها أيضاً ابتعدوا، مثل عبد الكريم الشعار الذي هاجر إلى الطرب الأصيل فقط، وإقامة أمسيات خاصة على المسرح. وكذلك الفنان، أحمد دوغان، الذي كان الأقرب لمرعشلي نظراً لصلة القرابة بينهما. وغاب أيضاً، مايز البياع، الذي نال شهرة واسعة في الثمانينات. واتجه ربيع الخولي من ناحيته إلى اعتزال الفنّ ودخول الرهبنة.
تعترف منى مرعشلي بأنها غيبت نفسها بإرادتها فنياً واجتماعياً، بسبب حالة صحية عانت منها خلال السنوات الأخيرة. تقول إنها أتعبت صوتها قليلاً، وكذلك ملازمتها لوالدتها قبل رحيلها.
هكذا شعرت مرعشلي بالغربة الفنية. وأهملت شركات الإنتاج المستجدّة التي لم تكن بالنسبة لها هدفاً كما حصل مع زملائها. كانت ترفض معظم العروض التي تُقدَّم لها دون أسباب، على الرغم من متابعتها الحثيثة للأجواء الفنية، قبل اعتزالها الإرادي، فغلبها التعب النفسي بسبب العياء والحزن على رحيل والدتها، قبل شهر واحد.
لم تفكر منى مرعشلي يوماً بأن الفنّ مهنة، أو مصدراً للمال. على العكس تماماً، طوال فترة احترافها، كانت تظهر كهاوية، لم تعش النجومية بالمطلق، ولم تهتم بالتفاصيل الضرورية لحياة مغنية نالت شهرة كبيرة في بداياتها ما بين بيروت والقاهرة. لم تغرها حياة الليل. ولم يُسعفها العمر لعودة مرتقبة تحمل مزيداً من الإنتاج الغنائي، رغم كل الدعوات. بل كانت تطمئن من بعيد على بعض الأصدقاء في مجال الفنّ، ومنهم على وجه الخصوص المخرج سيمون أسمر، وترفض إجراء مقابلات تلفزيونية مدفوعة، حتى رحلت أمس عن 58 عاماً تاركة مجموعة قليلة من أغنيات ذات قيمة فنية عالية.