بفعل ذلك، قد يكون كرامي رجلاً سياسياً نادراً مرّ في لبنان، لناحية أنه تنحّى ودفع ثمن ذلك لاحقاً. ولا بدّ أنّ الرجل ترك بعض مذكرات الحكم في درج ما في مكتبه في مدينة طرابلس (شمالي لبنان)، أو ائتمن بعض المقرّبين منه على تلك الوقائع وسيشرحون الأمر يوماً ما.
عمر كرامي، الملقّب بـ "الأفندي"، متحدّر من عائلة سياسية تاريخية في مدينة طرابلس. نالت العائلة هذا اللقب أيام حكم السلطة العثمانية للبنان، فتميّزت به سياسياً واجتماعياً. ولمن لا يعرف الرجل، فقد ترأس الحكومة اللبنانية مرتين، وهو نجل الرئيس عبد الحميد كرامي، أحد رجال الاستقلال اللبناني عن الدولة الفرنسية في أربعينيات القرن الماضي، وأخ رئيس الحكومة رشيد كرامي، الذي اغتيل بتفجير مروحية عسكرية كان على متنها عام 1987.
عانى "الأفندي" في الأشهر الأخيرة مع المرض، لكن معاناته السياسية كانت أشدّ فتكاً. ولمن لم يعد يذكره، فقد تعرّض الرجل لإقصاء انتخابي وآخر سياسي، مباشر أو غير مباشر، من قبل حلفائه في قوى 8 مارس/آذار. خدم الرجل مصالح النظام السوري في لبنان طويلاً، وتحمّل أعباء ذلك كثيراً ودفع أثماناً معنوية وسياسية عديدة، لكنه بقي في المحور السوري وأحد رموزه.
وضع الأوصياء على لبنان، تحديداً حكم البعث في سورية، كرامي دائماً في موقع "كبش المحرقة" أو "الدائرة الأضعف". إذ تشير تجربته السياسية إلى أنه كانت تُسنَد إليه رئاسة الحكومة في الفترات الانتقالية الأكثر حساسية، التي تأتي لتُنهي مراحل سياسية جديدة، تكسر ظهر الحكام السابقين، وتفتح الطريق أمام آخرين جدُد.
عام 1992، سقطت حكومة عمر كرامي في الشارع، تحت وطأة الضغوط المعيشية، بتحريك وتسهيل من حكّام دمشق. جاء سقوطه ليعلن انطلاق مرحلة "الحريرية السياسية" (نسبة لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري)، ليُقصى عن الحكم، ويحافظ الأوصياء على دوره في المجلس النيابي فقط. ترأس "الأفندي" تلك الحكومة وكان من ضمنها رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، الذي اتّهمه لاحقاً القضاء اللبناني باغتيال رشيد كرامي، شقيق عمر. جلس كرامي مع المدان بقتل شقيقه، في خندق واحد وعلى طاولة واحدة، في مشهدٍ يُعدّ من أشرس أساليب التعذيب المتّبعة في مدرسة النظام السوري، حين يصبح الجميع، القتيل والقاتل، ضحايا الحاكم بأمرهم.
ظلّ كرامي في موقع الظُلّ حتى تغيّرت المصالح السورية وحاولت الإطاحة بالحريري أيضاً. عاد إلى رئاسة الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2004، مع أزمة التمديد لرئيس الجمهورية وقتها إميل لحود، وعلى أعتاب إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة على وقع حرب العراق في عام 2003.
تلقّى كرامي عبء الإطاحة السورية بالحريري، على المستوى الشعبي والطائفي السني وعلى المستوى الدولي أيضاً. جاء اغتيال رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005، ليضع "الأفندي" أمام مشرحة سياسية داخلية وخارجية. حُمّل التبعات السياسية لهذا الاغتيال، فاتّهمته المعارضة بالقتل والترهيب، ولو أنّ مصدر الإجرام كان أوسع وأكبر من حجم رجل سياسي محلي. لم يصمد "الأفندي" أكثر من أسبوعين في الحكم بعد اغتيال الحريري، فقدّم استقالته العلنية أمام المجلس النيابي في 28 فبراير/شباط على وقع الشارع أيضاً وجمهور فريق 14 مارس/آذار، وبضغوط دولية من واشنطن إلى باريس مروراً بمجلس الأمن.
غاب كرامي عن الساحة السياسية مرةً جديدة. وبات خارج الروزنامة السياسية الخاصة بفريقه، كما لو أنه رحل عن لبنان مع انسحاب الجيش السوري في أبريل/نيسان 2005.
في الانتخابات النيابية عام 2009، حصل كرامي على 43 ألف صوت في دائرة طرابلس، فكان أول الخاسرين. فاقمت من هذه الخسارة مواقف وخطابات أقطاب حلفائه في قوى 8 مارس/آذار. قبل أيام من الانتخابات، أطل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ليصف أحداث 7 مايو/أيار عام 2008 (أي اجتياح الحزب لبيروت بالسلاح)، بـ "اليوم المجيد". أما تبعات هذا الكلام، فتجلّت باستفزاز الجمهور السني وانصياع كل الوسطيين فيه إلى محور 14 آذار.
انقلب "اليوم المجيد" إلى يوم أسود في سجلّ كرامي، الذي بات خارج المعادلة السياسية، إلى أن حان موعد التغيير السياسي الداخلي من جديد. نفّذ "حزب الله" وتكتل "التغيير والإصلاح" الانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري عام 2011، فأسقطوها وبدأ البحث عن اسم جديد لرئاسة الحكومة. ومَن غير عمر كرامي يمكن أن يأتي به الحلفاء إلى مشنقة مماثلة؟ فلو نجح الأمر، لكان "الأفندي" سجّل اسمه على اعتباره الرجل الذي أطاح الحريري الأب والابن معاً.
إلا أنّ قرارات "حزب الله" كانت أقسى وأشدّ، إذ نقل نصر الله عن عمر كرامي الآتي: "أشكر ثقتكم ولكن وضعي الصحي والوضع الحالي يحتاجان إلى نشاط وجهد، وأرجو أن تجدوا خياراً آخر". شطب نصر الله كرامي من المعادلة الحكومية، ما استوجب رداً واضحاً وصريحاً منه بعد يومين، فقال كرامي: "عندما استمعت للسيد حسن في الخطاب الذي رثاني فيه، اليوم أنا أمامكم وأستشهد بكم كإعلاميين، أنا أمامكم فهل ترونني مريضاً؟ ولكن على كل حال، نحن لآخر نفس في خدمة هذا البلد".
رثى النظام السوري ومعه "حزب الله" عمر كرامي، قبل أن يمرض ويتعب وينسحب إلى التقاعد. بهذا الشكل كافأه الحلفاء على كل ما فعله ونفّذه على حساب أجندته السياسية والشخصية، فنال جائزة ترضية صغيرة، من خلال توزير نجله فيصل. لعب عمر "أفندي" دور "كبش المحرقة" بإتقان، واستمرّ في ذلك حتى اللحظة الأخيرة، ولو أنه مقتنع بشكل كامل بأنّ الواجب العروبي والوطني يقتضي منه بذل كل تلك التضحيات.