"رسّام بلوحة واحدة" (2015) كان عنوان آخر معرض للفنان التشكيلي التونسي جلال بن عبد الله (1921 – 2017) الذي رحل الجمعة الماضي في تونس العاصمة. كان المعرض، على عكس ما يوحي عنوانه، محاولة لخلخلة توقعات الزائر بأنه حيال فنان تتشابه أعماله فتبدو مثل تنويع على لوحة واحدة عناصرها الطبيعة التونسية والحياة اليومية للنصف الأول من القرن العشرين، كما هو الحال مع معظم من نسبوا إلى ما عُرف بـ"مدرسة تونس"، وهي العناصر التي استثمرت فيها الدولة التونسية لصناعة صورة للبلد في مناهج التعليم والسوق التنافسية للسياحة.
غير أن معجم بن عبد الله أوسع من ذلك بكثير، وهو ما أظهره المعرض بتنوّعه اللافت بين لوحات سريالية أو إيروسية الطابع، وأخرى تجريبية أو ذات نزعة ملتزمة. نجد هذا التنوّع بالرغم من أن المعرض لا يعتمد سوى على مجموعة الأعمال التي لا تزال ملك الفنان.
لقد أتاح ذلك المعرض الأخير لكثيرين، من أجيال مختلفة، أن يروا كيف يمكن أن يُظلم فنّان حين يُحصر في زاوية حتى يبدو أنه توقف عن التطوّر منذ عقود طويلة. ويظلم بن عبد الله أيضاً لكثرة انتحال أعماله، والتي يعدّ موقعه الرسمي قرابة العشرين منها، تداولتها السوق الفنية، والتي هي أيضاً في معظمها استنساخ للنوع الفني المكرّس حوله.
لفهم مشوار الفنان التشكيلي التونسي، تجدر العودة إلى عملية التكوين البطيئة لـ"مدرسة تونس"، والتي تمثلت بادئ الأمر في مجموعة من الرسامين الأوروبيين، مواليد تونس، وآخرين قدموا من مدن أوروبية مختلفة، تجمّعوا حول التشكيلي الفرنسي بيار بوشارل (1895 – 1988) المقيم في سيدي بوسعيد في أربعينيات القرن الماضي، والتي تقابل السنوات الأخيرة من الاستعمار الفرنسي (1881 – 1956).
يرجّح أن فكرة المدرسة أطلقت من ملاحظات سجّلها بول كلي خلال زيارته إلى تونس في 1914. قبل وصوله، بدا الفنان الألماني مختنقاً من المناخات الأوروبية، على وقع الهجمة الصناعية والحروب، وأيضاً لضيقه بعالم الفن الذي تحكمه حسابات معقّدة، لكنه بعد أيام من وصوله إلى تونس دوّن على دفتره قائلاً "هنا يمتلكني اللون(...) أنا واللون صرنا واحداً"، وتحدّث عن إعادة اكتشاف الضوء والخطوط والألوان. ومن ثمّ شكّلت لوحات رحلة تونس ثم الفترة التي تلتها دفعة في مسيرة كلي كان لها أثرها على ساحة الفن بشكل عام.
كثير من الفنانين الذين ضاقوا هم أيضاً بالمساحة الأوروبية التقطوا ما وراء ما كتبه كلي؛ ثمة في المكان الذي تحدّث عنه فضاء إلهام جديد. جعل ذلك من تونس، منطقة جذب للفنانين بداية من عشرينيات القرن الماضي، وتهيّأت سيدي بوسعيد التي رسمها كلي وفنانون آخرون لكي تتحوّل إلى مرسم كبير، وبدأ التنظير لخصوصيات الألوان والخطوط والمعمار والطبيعة في تونس كفرصة متاحة لتجاوز مكرّسات الفن الغربي.
مع إشعاع "المدرسة"، كان من المنطقي أن تستقطب جيل الفنانين التونسيين الصاعدين، خصوصاً أولئك الذين استفادوا من بعثات إلى كليات الفنون الجميلة في باريس وتمرّنوا في ورشات فنانيها، وحال عودتهم إلى تونس مثلت فضاء طبيعياً لاحتضانهم. كانت إضافة هؤلاء مزيداً من التغلغل في المكوّن التونسي، وبالتالي مزيداً من الخصوصية لـ "المدرسة"، والتحرّر من الذائقة الغربية.
بن عبدالله، من جهته، كان عصامياً، ولكنه بفضل معارض شارك فيها بداية من 1934 لفت انتباه الساحة الفنية فاندمج في عوالم التشكيل. في 1939، استقر هو الآخر في سيدي بوسعيد. وبات مع أسماء تونسية أخرى مثل علي بن سالم ويحيى وزبير التركي وحاتم المكي وعبد العزيز القرجي محسوباً على "مدرسة تونس" التي أصبحت في تلك الفترة بجناحين؛ تونسي وأوروبي. وفي حين كان التناغم جلياً في الأربعينيات، فإن أحداث السياسة مع صعود حركة المطالبة بالاستقلال قد قسّمت التيار الفني.
بدا التونسيون أكثر فأكثر التزاماً، مع الإشارة إلى أن مرحلة الالتزام لدى بن عبدالله سبقت موجة الخمسينيات، إذ رسم لوحة "الشهيد" في نهاية الثلاثينيات، وفيها يبتعد كثيراً عن الخصائص البصرية لـ"مدرسة تونس" ولكنه يبدو في المقابل أقرب إلى تونس كوطن ومخيال. اللوحة قُدّمت ضمن معرض "فنان بلوحة واحدة" في 2015، أي إن بن عبدالله لم يفرّط فيها رغم أهميّتها.
مع الاستقلال، أصبح التونسيون المكوّن الرئيسي لـ"المدرسة"، ووجدت الدولة في اسم "مدرسة تونس" ما يشبه العلامة التجارية الجاهزة، فجرى استثمارها؛ أولاً من خلال تحويلها إلى مجال أكاديمي مع استيعاب "كلية الفنون الجميلة" عدداً من أسمائها ومحاولة تحويلهم إلى أوصياء على الحركة الفنية في البلاد، ثم من خلال استخدام منتوجها في الترويج لصورة تونس في الخارج، من الطوابع البريدية إلى الدعاية السياحية. بالمناسبة، تحوّلت قرية سيدي بوسعيد منذ ذلك الوقت من فضاء فني إلى فضاء سياحي.
هذا الوضع، ساهم في تشتّت "مدرسة تونس" منذ سبعينيات القرن الماضي وذوبانها؛ البعض مرّ إلى مراحل وأماكن أخرى غير آسف، والبعض الآخر آثر الصمت والابتعاد، وجزء استهلكته الآلة المقاولاتية في الفن.
يمكن وضع بن عبد الله في موقع بين الفئتين الأخيرتين، فبين الخمسينيات والسبعينيات جرى تكليفه بمشاريع كثيرة من قبل الحكومة التونسية، مثل مهمة الإشراف على الجانب الديكوري في "المسرح البلدي" في تونس العاصمة، كما كلّف بتزيين فضاءات تونسية في باريس وبروكسل، وصولاً إلى الطوابع البريدية وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن تلك التي أنجزها بن عبد الله، وكذلك حاتم المكي، حملت جودة فنية لافتة.
كان ثمن هذا الاقتراب من خيارات الدولة خلال هذه العقود الثلاثة نسياناً خلال العقود الثلاثة التي تلتها، فتغيّرات السياسة قد حكمت على أبرز وجوه الفن زمن بورقيبة بالركون للظل زمن بن علي دون مراعاة القيمة الفنية، ولن نعثر على اسم جلال بن عبد الله خلال تلك السنوات إلا في مؤلفات حول تاريخ الفن التشكيلي التونسي، نفس تلك السنوات التي تحوّلت فيها سيدي بوسعيد إلى مادة مستهلكة، فنياً وسياحياً، وتغيّرت ملامحها تحت ضربات الأمواج العولمية التجارية. هجرها الكثير من الفنانين، وأتى بدلهم الأثرياء ورجال السياسة، إلا أن بن عبد الله لم يغادرها في خريفه وخريفها.
يمكن اعتبار الـ 2010 سنة عودة بن عبد الله من الظل، فقد نُظّمت حتى 2015 معارض له وعنه، وقد وجد الكثير من الترحيب من أجيال مختلفة، بدا لهم فناناً خرج للتو من كتاب التاريخ، وبظهوره أتيحت فرصة لإعادة قراءة هذا التاريخ الفنّي المقطّع الأوصال.
برحيله، تكون شمعة أخرى قد انطفأت من أسطورة سيدي بوسعيد. شبّاك آخر يقفل على مشهدها البحري الرائع، وقد يقفل معها مرسمه الذي ربما لن تتورّع حسابات الاستثمار في تحويله إلى فندق أو في أحسن الأحوال متحفاً أو غاليري، ولن يكون أكثر من نقطة ضمن المسار السياحي للقرية.
تونسة "مدرسة تونس"
"كيف يمكن أن نرسم مشاهد من تونس من دون أن نكون مستشرقين؟" كان ذلك أحد الأسئلة التي طرحها مؤسسو "مدرسة تونس"، غير أن أعمال الأوروبيين منهم ظلت حاملة لبعض من رواسب استشراقية. ربما استفاد جلال بن عبد الله من عصاميته، إذ لم يمرّ من "تاريخ الفن"، فقد نضجت تجربته، التقنية على الأقل، قبل دخوله الساحة الفنية، وحين انتمى إلى "مدرسة تونس" نأى عن أسئلتها الثقافية، كان يريد فناً متصالحاً مع نفسه وفضائه.