رحم الله أيام "نستنكر"

24 نوفمبر 2017
+ الخط -
هل تذكرون الزمن العربي الجميل، عندما كان الشمل العربي يلتئم في قمم الزعماء والقادة؟ هل تذكرون عندما كان يلتقي العقيد بالفريق، والزعيم الخالد بالقائد الماجد، وكان صليل "اللاءات" يلوح من الخرطوم، فترتعد فرائص تل أبيب؟ كنا نتَسمّر أمام شاشات التلفاز، الأبيض والأسود، حتى نرى ذلك الجمع المبارك من أصحاب الجلالة والسيادة والفخامة والسمو والسعادة والمعالي يتوافدون على مكان القمة. كنا نتابع بلهفةٍ أخبار من وصل، ومن حضر، ومن غاب، ومن ناب عن من. كان الجمهور المتحلق حول شاشة "14 بوصة" يرصد كل واردة وشاردة ينقلها التلفزيون الرسمي الذي ينقل أساسا عن بث التلفزيون الرسمي للدولة المضيفة للقمة. من ينسى ذلك الزمن العربي العظيم، عندما كان بيان القمة الختامي يأتي مدجّجا بترسانة من التهديد والتنديد والوعيد، شاهرا كل أسلحة الاستنكار والشجب العابرة للنبرات واللغات واللهجات. ويأتي كذلك معطّرا بكل آيات التحيات والتقدير لأصدقاء الأمة العربية من الاتحاد السوفييتي إلى الصين الشعبية، ومتمنيا الحرية والاستقلال لكل الشعوب المناضلة من جنوب أفريقيا بزعامة المناضل نيلسون مانديلا، إلى كوبا بزعامة الثائر فيدل كاسترو، مع إفراد فقرة كاملة لنضال الشعب الفلسطيني، وصموده الأسطوري في وجه العدو الإسرائيلي الغاصب.
كانت الصحافة تتلقف بيانات القمة، ويحلل كبار الكتاب ما ورد فيها من جمل وكلمات، ويجتهد المفكرون في البحث عن العبارة الغامضة التي اختلف عليها القادة والزعماء، وقيل إنها السبب في تأخر اختتام القمة، وتأجيل صدور البيان الختامي. نعم، كان الزعماء زعماء، لا يقبلون صدور البيان الختامي إلا بالإجماع على كل حرفٍ وكلمة فيه، ففي قواميس الزمن العربي الجميل كانت مساحة الخلاف أطول من "لسان العرب"، وكان الاختلاف الأيديولوجي بين "الأنظمة الرجعية" و"جبهة الصمود والتصدي" أوسع من "المحيط".
كنا نجد في القمم العربية مناسبةً لفرجة تلفزيونية مختلفة تكسر بلادة ما كانت التلفزيونات العربية الرسمية تبثه من برامج رتيبة، كئيبة، ترفع الضغط وتوطئ الرأس. كانت مناكفات العقيد الراحل معمر القذافي تضيف نكهة خاصة إلى القمم، وكنا نشعر بالحزن إذا ما غاب عن قمة وأرسل عبد السلام جلود بدلا منه. كنا نراقب لغة الجسد للملوك المزمنين في الحكم، وفي مقابلهم الزعماء الثوريون الانقلابيون الحاكمون بالحديد والنار. كان إعداد طاولة الاجتماع المستديرة يأخذ من مندوبي الدول أياما، قبل التوافق على الشكل النهائي لترتيب الكراسي، لاسيما عندما يرفض حافظ الأسد الجلوس قريبا من خصمه اللدود صدّام حسين، ويأبى القذافي مجاورة ملك السعودية، وكان المراقب الحاذق يقرأ الخارطة السياسية العربية، بالنظر إلى طاولة القمة المستديرة.
تحسرت على الأيام الخوالي، وأنا أتابع اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، في جلسةٍ باهتة، لا جلال فيها، ولا مهابة. حزنت على الأجيال الشابة من أمة العرب، وهم يفتقدون ما تمتعنا به من تفرّج على قمم "الشجب والاستنكار". يوم كان الأمين العام لجامعة الدول العربية يعتلي المنصة يتلو بيان القمة "لاعنا" أبا الإمبريالية، بالعربية الفصحى، ومتوعدا الصهيونية العالمية، وربيبتها إسرائيل، بكل أصناف "التنديد" الخالية من أي سيوف.
رحم الله زمن الشجب والتنديد والاستنكار، فلم تعد الأمة قادرةً على قول شيء، ناهيك عن فعل أي شيء. اجتماعات باهتة، بيانات خاوية، لا تهديد، لا وعيد، لا استنكار أو شجب أو تنديد. لم تعد البيانات العربية قادرةً حتى على ذكر إسرائيل، لا بصفتها احتلالا يغتصب الأرض والعرض، ولا بوصفها عدوا يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة. لم تعد إسرائيل عدوا للجيل الجديد من أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والمعالي والسعادة.
كان بعض "الحاقدين" يسخرون من القمم العربية وبياناتها، ويستخفّون بعبارات الاستنكار والشجب، ولا يعجبهم مجرد تنديد العقيد والفريق بالعدو الإسرائيلي. انتظروا، يا هؤلاء، الزمن العربي المقبل، عندما تستضيف إسرائيل القمة العربية، ويصدر البيان الختامي بالعبرية الفصحى.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.