رحمة الفرنسيين.. وهب الأعضاء فرض على كلّ مواطن

10 يناير 2017
أمل جديد لآلاف المرضى (دومينيك فاغيت/ فرانس برس)
+ الخط -
تزداد الحملات العالمية حول وهب الأعضاء بعد الوفاة زخماً كلّ عام، بالترافق مع التطوّر في تقنيات العلاج والحاجة المتزايدة إلى أعضاء مختلفة لإنقاذ الأرواح وتحسين نوعية الحياة لدى كثير من المرضى. وفي السنوات الأخيرة، تخطو فرنسا خطوة عملاقة على هذا الصعيد توّجت مع بداية عام 2017 بتحويل كلّ مواطن إلى واهب لأعضائه بعد وفاته إذا لم يثبت أنّه كان رافضاً هذا الأمر في حياته.

خلفية هذا القرار التنفيذي تعود إلى فوز مشروع قانون حول الصحة في أبريل/نيسان 2015 بموافقة أغلبية النواب. وهو قانون أُريد منه، كما قال في حينه جان بيير سكوتّي، رئيس مؤسسة "غريف دي في" المتخصصة في التبرع بالأعضاء، "إنقاذ حياة المئات".

جاء القانون يومها بجديد يتجاوز ما كان معمولاً به سابقاً من سلطة حصرية للآباء أو الأوصياء في قرار السماح بأخذ عضو من أعضاء الشخص الميت. وليس من المبالغة القول إنّ نحو 20 ألف شخص كانوا ينتظرون عام 2013 واهبي الأعضاء. وهو رقم أكبر بكثير من المنتظرين عام 2005 الذين وصل عددهم إلى 12 ألف حالة.

تقدّر السلطات الفرنسية نسبة رافضي وهب أعضائهم بـ40 في المائة، على الرغم من أنّ استطلاعات رأي أجريت عام 2013، أظهرت عكس ذلك، فقد عبّر يومها نحو 80 في المائة من المشاركين عن استعداهم لوهب أعضائهم بعد وفاتهم.

الرضا المفترض

هناك اعتراف أنّ القانون الصادر عام 2015 حسّاس وبالغ التعقيد. وبذلك، فإنّه يقسم المجتمع الفرنسي في كلّ فئاته الاجتماعية حتى العرقية والدينية، فبالإمكان العثور على مؤيدين ومعارضين للقانون في نفس العائلة. كذلك، فإنّ موقف المستعد للوهب قد يتغير في أي لحظة قبل وفاته. والواقع أنّ أمام من يرفض وهب أعضائه بعد وفاته طريقتين لتبيان هذا الرفض وجعله قانونياً، الأولى هي إخبار العائلة والمقربين (عبر ترك وثيقة مكتوبة أو صوتية مسجلة)، والثانية، وهي الشكل الرئيسي وليس الحصري، تتمثل في تدوين الرفض في السجل الوطني لرفض منح الأعضاء والأنسجة، والذي تديره "وكالة الطب الحيوي".

وقد اشتهرت هذه الوكالة بشكل لافت أثناء السجالات التي أعقبت النقاشات البرلمانية حول المنح التلقائي للأعضاء عام 2015. وتلقت طلبات تسجيل غير مسبوقة، فباتت تضم الآن ما يزيد على 140 ألف شخص مستعد للوهب بعد الوفاة، مقابل 90 ألفاً فقط أثناء النقاشات البرلمانية.
قبل القانون الجديد، كان من يرغب في وهب أعضائه بعد الوفاة يحصل على بطاقة واهب، لكنّ قيمتها القانونية كانت معدومة، بالإضافة إلى عدم العثور عليها في كثير من الأحيان بعد وفاة صاحبها. وهو ما يدفع الطاقم الطبي إلى سؤال العائلة لمعرفة موقف الراحل، خصوصاً أنّ حالات الوفاة التي تمنح إمكانية جيدة لأخذ الأعضاء تكون غير منتظرة، مثل حوادث السير أو الإصابة بسكتة دماغية.

لكن، منذ بداية العام الجاري، جرى التأكيد على مبدأ "الرضا المفترض" أي أنّ عدم رفض المواطن الفرنسي وهب أعضائه يضعه تلقائياً في خانة الواهبين المفترضين، لكن مع الحفاظ على الحوار مع العائلة والمقربين، وإن عبر "إخبار الطبيب لهم، لا أكثر، حول طبيعة العضو الذي ستجري الاستفادة منه". وهكذا ستكون العائلة على علم وتجري استشارتها لمعرفة مواقف الراحل حول منح أعضائه (إن كان أعلن رفضه بوثيقة يحتفظون بها) في ظل غياب أي تسجيل في السجل الوطني لرفض منح الأعضاء. وبذلك، فإنّ على أيّ شخص قريب من المتوفى يشهد على رفضه الوهب، أن يفسّر أسباب الاعتراض في وثيقة مؤرخة وموقعة من الراحل بالذات.



هكذا، اختارت فرنسا باسم "التضامن الوطني" مبدأ "الرضا المفترض"، وبالتالي فإنّ "كلّ الفرنسيين واهبون لأعضائهم وأنسجتهم، إلا إذا عبّروا في حياتهم عن رفض هذا الوهب"، بحسب المراسيم الجديدة المؤكد عليها مع بداية العام الجاري.

الرحمة في التفاصيل

يشكّل الأمر صدمة لكثير من المواطنين، مع ذلك يتضمّن كثيراً من التفاصيل التي تجعله أقل حدة، مما يبدو عليه، ويمنح للمواطنين حرية اتخاذ القرار. من ذلك أنّ بإمكان المواطن (غير الرافض) أن يعبّر عن "رفض جزئي" بمعنى أنّ بإمكانه أن يشير في السجل الوطني إلى الأعضاء والأنسجة التي يقبل بوهبها بعد موته والأخرى التي يريد أن تظل في جثمانه، خصوصاً أنّ كثيراً من المواطنين يجدون صعوبة في وهب القلب أو قرنية العين، لما يعتقدون بخصوص القلب وما فيه من بعد شخصي، وما يعتقدون في القرنية من حرمان المرء من الرؤية، حتى بعد الموت.

من جهته، عالج مجلس الدولة الفرنسي الذي يمتلك صلاحية الموافقة على القوانين أو رفضها أو تعديلها، قضية تذبذب مواقف الشخص قبل وفاته، فانتصر لآخر موقف يكون الراحل قد عبّر عنه، قبيل الوفاة. كذلك، فإنّ شيئاً إضافياً يوفره القانون الفرنسي ولا نجده في القوانين الأوروبية الأخرى، وهو أنّ بإمكان الشخص الذي رفض وهب أعضائه وسجّل رفضه في السجل الوطني، أن يتلقى هو نفسه أعضاء وأنسجة في حال حاجته إليها. ولم ينسَ المشرّع قضية القُصّر، فإذا كان الأمر يحتاج في حال وفاتهم إلى موافقة أولياء أمورهم، إلّا أنّ بإمكانهم، وابتداء من سن الثالثة عشرة، أن يدوّنوا موقفهم في السجل الوطني، رفضاً أو موافقة في هذه الحالة.



ويصرّ القانون الجديد، إلى جانب موافقة المعنيّ بالأمر، على مبدأي المجانيّة والسرية، وهما مبدآن أساسيان في قانون "أخلاقيات الطب الحيوي" منعاً لأيّ عمل غير قانوني كالمتاجرة بالأعضاء، كما تفعل المافيا في كثير من دول العالم الثالث، إن عنوة أو عنفاً، أو استغلالاً لبؤس عائلات فقيرة مستعدة لبيع أعضاء من أفرادها خلال حياتهم. كذلك، فإنّ السرية، كما يشرح الأستاذ الجامعي الفرنسي أوليفيه باستيين، هي من أجل تفادي التوترات التي تعقب عملية وهب الأعضاء بين أسرة الواهب والشخص المستفيد، خصوصاً حين يتعلق الأمر بعضو القلب.

تأييد واعتراض

يجب التذكير بأنّ كل شيء جرى أخذه بعين الاعتبار، بحسب البروفيسور باستيين. من ذلك مواقف الجسم الطبي والعائلات والديانات. وفي ما يتعلق بالأخيرة، تؤيد معظم المرجعيات الإسلامية، بما فيها مجلس الإفتاء الأوروبي، مبدأ التبرع بأعضاء الميت بعد وفاته، بشروط يأخذها بعين الاعتبار الأطباء الفرنسيون. ومنها وصية الميت بذلك، وأن يجري أخذ العضو بعد التيقن التام من موت الواهب، وأن تستثنى بعض الأعضاء مثل المخ والأعضاء ذات العلاقة بالمورثات والأنساب (الخصية والمبيض)، وهي في كلّ الأحوال من الأعضاء التي يمكن أن يستثني المواطن وهبها عبر ذكرها قبل وفاته في السجل الوطني. ويمتدح الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التبرع بالكلية والقرنية والقلب مثلاً ويعتبره "إيثاراً محموداً".

وإذا بحثنا عن الاعتراضات على القانون الجديد، والذي دخل في مطلع يناير/ كانون الثاني الجاري حيز التنفيذ، فسنجد أبرزها يتمثل في تراجع أهمية موقف العائلات، والتي يجري إخبارها فقط لا استشارتها، وهو ما يدفع كثيراً من الأطباء وجمعيات التبرع بالأعضاء إلى المطالبة بإقناع العائلات بدل ليّ أذرعها.

ولأن القضية مجتمعية، فإنّه يصعب الحصول على موقف شامل من القانون. ويختلف الأمر بين مواطن وآخر. ولأنّ الأمر يتعلق أيضاً بالأخلاق والقيم، لا يتردد الطبيب الفرنسي المغربي زهير لهنا في القول: "المسألة تسبب لي أزمة نفسية. ولست على علم كاف بجواز الأمر شرعاً، خصوصاً أنّ هناك من يعارض الأمر من زاوية دينية إسلامية أيضاً. ولهذا فكثير من الأدعية النبوية تطلب من الله أن يحافظ على أجسامنا، كاملة، يوم وفاتنا". يضيف لهنا: "لكنّ الأمر يبقى موقفاً شخصياً بالنسبة لي".

أما الدكتور والجراح السوري الفرنسي الشهير خليل النعيمي فيعلن تأييده الكامل للقانون الجديد. ويعتبر أنّه "قانون يأخذ بعين الاعتبار كلّ القضايا والمخاوف التي يمكن أن يعبّر عنها هذا الطرف أو ذلك". فما يهمّ في رأيه هو "إنقاذ الأرواح والتعبير عن شكل آخر من أشكال التضامن الوطني". يضيف أنّ "من حق كلّ شخص أن يختار في حياته، في حرية شخصية، أن يتبرع أو لا يتبرع. أليست هذه المواطَنة الحقة؟".

دلالات
المساهمون