رحلة إلى مملكة بوهيميا (2-2)

20 أكتوبر 2017
(تجهيز أمام متحف الفن المعاصر في براغ)
+ الخط -
(4)

اسم براغ، حسب ما قال أحد أصدقائي، أطلقه يهودي اسمه إبراهيم بن يعقوب، جاء من الأندلس، وكان يمتهن التجارة. وقد عاش اليهود بالآلاف في التشيك قبل أن يحرقهم النازيون، ولم يبق غير فئة قليلة منهم. الحياة في المدينة سلسة ومنظمة. لقد ربحَت المدينة من تاريخها الشيوعي القديم تعليماً عمومياً وصحة وعناية بالأطفال.

لا أعرف كيف تجتمع العراقة والتقليد، مع أقصى أشكال التحديث في بلد واحد مثل التشيك. فبالإضافة إلى التقاليد الدينية المرعية والطقوس التي لا تُنسى، والمباني الجميلة التي تجعل المدن متاحف مفتوحة في كلّ الطريق، هناك محلات الجنس وعوالم اللذة المشرَعة بلا انطفاء، مصابيح حمراء مُنذرة مثل عربات الإسعاف تشتعل بعد الثانية عشرة لتقول لك انزل الدرج باتجاه المتعة ولا تخف فكلّ شيء مقنن ومتاح وله ميزان.

لكنها تقول لك أيضاً احذر واعرف أين تضع خطوك الكريم لأن ثقافتك تتبعك أينما حللتَ. بيع وشراء وكؤوس تُرفع، وأكوام من الخلق تدخل وتخرج من بيوت اللذة المرخّصة، وتاريخ من الاستغلال تحمله معها المدن الصغيرة وتنوء به وتكشف عن جحيم الإنسان الذي يتحوّل إلى سلعة. بحور من البيرة بلا حساب، حتى إنهم صنعوا للبيرة متحفاً خاصاً سمّوه: متحف البيرة. وفيه يعرضون تطوّر المشروب عبر التاريخ ومذاقه وألوان القناني وأشكالها. متاحف بلا عدد، وأزقة خرجت من كتب التاريخ وبهاء مطلق وإنارة خفيفة.

في الشارع تستقبلك الداعرات ليعرضن عليك الجنس بثمن بخس، فقد سقطتْ أسطورة التشيك باعتبارها مكاناً للمتعة بعد الأزمات المالية العالمية، واضطرت المحلات إلى تعديل أثمنتها لتُساير الركود. يُنقذك الجزائري اللطيف من براثن المتربصات بعد أن يخبرك بأنْ لا مجال وأن إمكانات الهزيمة متاحة بقوة. أنت تبحث عن أفكار وصور للكتابة وهو يعتقدك راغباً في خوض غمار التجربة. يكلمك بلهجته الحارة ويسبّ هذا العالم، يقول لك:
- خويا، هادا شعب منحوس.

على العكس مما يعتقد البعض، ليس شعب التشيك مائعاً أو خائضاً في وحل الرذيلة بلا حدود. المتعة للبراني، وعليه أن يدفع لتتحرك عجلة الاقتصاد. شعب التشيك في جزء كبير منه محافظ خجول، حتى إن ابتسامة البنت في محل الطعام المكسيكي خجلى وهي تشير لك بالكأس لتحييك بعد أن سلّمتَ عليها من بعيد، وستظلّ تقاوم رغبتك في الحديث معها لأن تحيتها بين اللطف والقبول لولا جلال اللوحة ورقّة النقاش حول الفن وتاريخ التشكيل بإنكليزية تتكسّر بين يديك كالخزف بين الفينة والأخرى وتغشاها موسيقى الزاي والشين...

الجزائري يقودك بحنينه إلى حديث عن الأهل؛ يسبّ هذه البلاد التي يملأها الفسق والفجور، ثم ينتهي بكما المطاف إلى وداع خفيف بعد الحديث عن مباني العاصمة الجزائر التي أُغرمتَ بها وعن حلاوة كزابلانكا وصعوبة الإبحار فيها وعن صراع الصحراء وصداقة الشعبين. عندما يودّعك يلتفت إليك ويهشّم كل ما قاله لك عن الفضيلة دفعة واحدة حين يقول:
- خويا تْشَمّ؟ إلى تْحبّ تشم نعطي لخويا يْشَمّ.

في المحلات تأكل وتشرب وتتمعّش. رفيقك يعتاشُ يتمعّش يتموعشُ. في محلات الخفاء حفلات من الكوماسوترا مقابل الضحكة البريئة في محل الأكل. الزاد القليل ولطف النقاش الفني مقابل حرارة المال. تكتب الأوكرانية بذقنها شيئاً بين الإيجاب والسؤال، والمتعة تدوي بين الأصابع بسرعة يحاصرها منطق الذات.

في المحل المكسيكي يرقص شيخ قصير على إيقاع أغنية خفيفة وهو يرسم. يقف في المساحة الفقيرة لطاولته التي وضعوا عليها عشاءه وأوراق الرسم. يرقص ويرسم ويتملّى وجه فتاة جميلة أشارت لك بكأسها للتو وهي تحيّي. يقف إذ أنهى عشاءه ويغادر بعد أن يهديها اللوحة.

تتذكّر فيلماً أميركياً عنوانه "الجريدة" يحكي فيه رئيس التحرير لزميلته كيف دفع بيكاسو ثمن حفلة كاملة بخربشة على محرمة صغيرة؛ وقف بيكاسو وخربش على المنديل وقدّمه لصاحب المحلّ المذهول وغادر. هل سيدفع الرجل العجوز فواتيرنا بلوحته؟ ولماذا أهدى الشيخ اللوحة لصبية في سنّ حفيدته؟ هل هو نوع من الوصال الذي يتأتى للشيوخ الذين يُحرمون من الغزل؟ لكن الأساسي هو الحديث والجدل، ولثغة الزاي في صوتها الهامس الخجول وهي تحاول إخفاء حمرة الوجه الخجول...

في المحل ذاته، وفي الخارج البارد، ثم في السرير الضيّق قد تفكّر في الحب، لا كمادة سائلة أو غازية، بل كعنوان صلب يحدّد آلية الأمور. الأمور كيميائية والأشياء فيزيائية، لكن رعب الاقتراب من غريب لن ينتهي. نفكر في مجد اقتحام البراني فلا نجد جوابا سوى في الطبيعة التي تمتلكنا وتهبنا الدروس.

"بانسيون مانيس" ليس بعيداً عن الشارع الرئيسي، حيث يمكنك أن تحظى بابتسامة البنت التي تقف على الكونتوار مجانا وبتعاطفها. العري يمسح كل أسطورة. الحركات القويمة في البداية فقط قبل أن ندرك مجاهل الطريق. التشيك مسرح للفن والأدب، وعلينا أن نكتب كلّ شيء، بما في ذلك أخطاء الطريق وآلامه.

في النهارات تسرح بين الشوارع حتى تتعب. تدخل مزيداً من المتاحف وتكتب لصديقتك، على الفيسبوك، بعد تعب النهار ورحلة لا تنتهي بين الدروب:
- متاحف لا تُحصى في هذا البلد. وهم يسمون المتحف ماوزوم(muzeum). في كل مكان "ماوزم". لديهم "موازم" كثيرة.

تضحك وتقول لك:
- عندهم "الموازم" واحنا عندنا المواسم؛ بويا عمر، بنحمدوش، مولاي إبراهيم..

(5)

انتقلتُ إلى مدينة "بلزن" القريبة من براغ، لأشارك في لقاء أدبي بالجامعة، بعد أن تلقيتُ دعوة من قسم الدراسات الشرق أوسطية، فرأيتُ متحفاً آخر متنقلاً بين الطرقات. كل الأماكن جميلة وليس هناك ما تختار منها. صديقي الذي أمضى عمره بين أزقتها يقول إنه يكتشف شيئاً جديداً كلما رفع نظره إلى أعلى.

يشير إلى النوافذ والألوان والكوّات التي يعشّش الحمام فيها. إلى ثقوب الضوء المتسرّب من بنايات يعرف التشيكيون قيمتها جيداً. إلى الممرات الحجرية التي تمشي على وجهها أقدام خفيفة تحاول ألا تؤذي جمال الطريق... قلتُ لنفسي إن أهل بلزن يتمتعون بمدينة تصادف السواح بين شوارعها في كل حين. وحين يغيب السواح، يلعب السكان الدور بإتقان. يتجولون في مدينة خبروها جيداً، أحيانا يتيهون، مدعين أنهم لا يعرفون المكان للاستزادة من المتعة، ويسألون بعضهم البعض ببراءة عن الطريق إلى المنزل.

أخرج لأتعشى وأتمشى كعادتي. أتتبع الأنهار الأربعة في التشيك. أتتبع نهر فلتافا وأتمشى على جسر تشارلز. يتحدث صديقي عن تاريخ التشيك مع الشيوعية والعالم الاشتراكي. مازال صديقي مُقتنعاً بفكرة اليسار، رغم خفوت الفكرة ومرور المياه تحت الجسر الكبير، لكن ليس إلى حدّ الشيوعية.

لقد خرجت التشيك من تجربة الاحتلال السوفييتي، بعد أن كانت شيوعية رغماً عنها، وبذلك ترك هذا الانتماء أثره الكبير. لكل انتماء ثمن، فإذا كان الخروج إلى رحابة الديمقراطية وحرية التعبير ممتعا، فإنّ له ثمناً كبيراً هو اكتساح رأس المال بلا حدود، مما يفتح الباب أمام الفقر والحاجة، فتتحوّل المدينة إلى ماخور كبير يعجّل بهذا الانفتاح الأهوج في براغ، حيث أصبحتْ مكاناً للذة وقضاء المتع.

يدافع صديقي عن مدينته فيقول إنها أمكنة لا يزورها التشيكيون كثيراً، بل يرتادها الزوار، كما أن مالكيها من خارج البلاد، خصوصاً من ألمانيا ودول شرق آسيا. في الزمن الماضي، لم تكن هناك مخدرات بهذا القدر، ولم يكن هناك انفتاح يودي بالحياة، وكانت المكتبات منتشرة في كل مكان. كان الجميع يمتلك منزلاً وعملاً. أقرأ خَجَلاً ومحافظة في كلام صديقي الذي يحاول إبعاد تهمة العهر عن بلده.

لن تجد مغاربة كثيرين هنا، أكبر الجاليات عراقية وسورية، نظراً لانتماء هاتين الدولتين في مرحلة ما للمعسكر الشرقي. أغلبهم رجال جاؤوا لدراسة الطب والعلوم، فأغراهم جمال التشيكيات فكوّنوا أسراً واستقروا.

في مهرجان الثقافة العربية الذي حضرتُ أغلب فقراته، صور كبيرة لرموز ثقافية عربية عاش بعضهم في بلزن، اهتمام كبير بالمقاومة وفلسطين. حضرت حفلة روك لفلسطينية داعمة للمناضلين في سجون الاحتلال تغني عن الكوفية وتطلب دعم المعتقلين. يرقص الطلبة والأساتذة ويشربون البيرة وهم يستمعون لصوت المغنية تطلب دعم اللاجئين. أن ترقص على أنغام أغنية تتحدث عن الأسير أمر عجيب. انزويتُ في مكان صغير وكتبتُ بعض السطور.

في براغ أتوغل من جديد. أصل إلى متحف كافكا بعد رحلة على الأقدام. لكن ما حاجتي للمتاحف والتشيك متحف مفتوح، إن البلاد لا تبذل مجهوداً كبيراً كي تتزيّن. الجمال موجود ومتوفر من تلقاء نفسه. متحف كافكا يحتفي بالدروب والمنعرجات ويسرد تاريخ الكاتب الكبير؛ طفولته، شبابه، خوفه من العالم ومن ذاته، مواقفه، كتاباته، وموته في المنزل الشهير الذي تمّ تصويره كما تمّ تصوير كلّ ما يمكن أن يعطي فكرة عن حياة الكاتب وموته.

موسيقى غريبة تُدخل الخوف إلى القلب في المتحف، أيقونات ومخطوطات كتبها بيده، صور أصدقائه ومراسلاته. صوّرتُ كلّ شيء ووعدتُ نفسي بجلسة طويلة مع كافكا.

في الجامعة، أثناء لقائي مع الطلبة لقراءة نصوصي، سألتْني طالبة عن أهمّ الكتاب التشيكيين المعروفين في المغرب، فتحدثت عن فرانز كافكا وميلان كونديرا، فابتسم الجميع؛ بالنسبة إليهم كونديرا يكاد يكون كاتباً غير تشيكي، فهو فرنسي المسكن والهوية، وغادر التشيك مبكراً.

أما كافكا فمكرّس ومشهور وكلاسيكي في التشيك، لكن بعض الطلبة أشاروا إلى أصوله الألمانية العميقة، مما يجعل مسألة الدم محدّدة لبعض العواطف. هما، إذن، ليسا كاتبين تشيكيين. ونحن بالكاد نعرف شيئاً بسيطاً عن هذا البلد العجيب.

في السفارة تخبرني المسؤولة عن العدد الضئيل للمغاربة المقيمين في التشيك؛ عدد قليل جداً يجعل مهمتها سهلة. أمازحها وأقول: أحضريهم إلى السفارة واجعليهم يقيمون هنا وبذلك سيزول التعب...

في طائرة العودة، كتبتُ كلاماً كثيراً عن رحلتي، وغادرت المطار ونسيتُ مذكرتي الصغيرة. لم أتذكر مما كتبتُ سوى جملة واحدة: الأشياء ليست كما تبدو دائماً والحياة سفر طويل.


* روائي مغربي

دلالات
المساهمون