في الطريق إلى رام الله، بعد اجتياز الجسر، الذي غنّت فيروز له من كلمات الأخوين رحباني "يا جسر الأحزان أنا سمّيتك جسر العودة"، مروراً بأريحا (وتصعد من الذاكرة صورة الطفل وأقرانه يتجوّلون في شوارعها بين حديقة الحيوان ودار السينما)، والتلال الصغيرة التي تحتضن "بيوت شَعر" متناثرة، قيل إنّها لـ"النّوَر" (الغجر)، وحيث دار السائق دورات التفافيّة في طرقات داخلية وترابية ـ زراعية، ليتخلّص من مجموعة حواجز لجيش الاحتلال، ثابتة ومتنقّلة (طيّارة)، أو ليبتعد عن الطرق الفارهة المؤدية إلى المستوطنات، حتى وصلنا الفندق في وسط رام الله.
قبل الوصول إليها، ومنذ زمن طويل، ظلّت صورتُها في ذهني صورة قرية كبيرة أو، في أفضل أحوالها، بلدة حديثة. لم أكن زرتُها، ولم أكن أعرف عنها سوى تلك الأغنية العاطفيّة/ السياحية القديمة "وين ع رام الله/ وِلفي يا مسافر وين ع رام الله"، وحواديث وحكايات وكتابات من عاشوا فيها أو زاروها. سبق وقرأت ما كتبه عنها كلّ من الشاعر مريد برغوثي والروائي فاروق وادي. لكن لم أكن قرأت رواية الفلسطينيّ عبّاد يحيى "رام الله الشّقراء"، ولا كنت قرأت كتاب الصحافيّ الفرنسيّ بنجامين بارت "حلم رام الله: رحلة في قلب السّراب الفلسطيني" (عاش في رام الله بين 2002 و2011 مراسلاً لجريدته اللوموند).
لم أكن قد رأيت رام الله من قبل، لكنّني حين وصلتُها وأقمت فيها أسبوعاً، تجوّلت في أحيائها، من وسط المدينة، مروراً في حي "المصيون" الفخم، وصولاً إلى مخيّم الأمعري بكل "عراقته" بوصفه الأكثر شهرة في المدينة، وفي فلسطين كلها ربما. ووجدتُ فيها الكثير ممّا أورده الصحافيّ الفرنسيّ والروائي الفلسطيني.
اقرأ أيضاً: حملة سخرية من تامر حسني..فهل يلغي حفله برام الله؟
نلحظ، أول ما نلحظ من المدينة، أنّها تكاد تخلو من أيّة مظاهر "كفاحيّة"، إن جاز التعبير، لصالح شيء من مظاهر البذخ الجديدة، وكما يلحظ الصحافي الفرنسي فقد "اختفت المُلصقاتُ التي تكرّم شهداء الانتفاضة الفلسطينية من شوارع رام الله، لتحلّ مكانها اللوحات الإعلانية الضخمة الداعية إلى الحصول على التسليفات العقارية...؟". بينما لا تعدم وجود صور للزعيم الراحل ياسر عرفات منفرداً بجماهيره، وأحياناً برفقة خليفته محمود عبّاس، وغيرهما من القادة.
هذا ما تلمسه منذ اللحظات الأولى لدخول المدينة، من جهة الحيّ/ الضّاحية الأرقى فيها، ضاحية (المصيون)، حيث الأضواء الباهرة للفنادق وما يشبه الأبراج، فضلاً عن الأسواق العامرة بالمرتادين لأشكال من التسوّق، والعابرين بين المطاعم والمقاهي بمختلف أصنافها ومستوياتها. الأمر الذي يصدق معه تساؤل الصحافي (بارت)، عن كيف "تحولت بلدة، إلى مدينة صغيرة منفتحة على العالم، وتتوزع فيها الحانات العصرية والمساكن الفاخرة"، بل يجعله يختزل حال البلد كله بالمأسويّ و"العبثيّ الرائع الذي يشبه بأجوائه روايات فرانز كافكا ولويس كارول".
أما ما انطبع في وعيي منذ اليوم الأول في الزيارة، وكوني في أجواء معرض رام الله للكتاب، وهو مناخ ثقافي بامتياز، فهو ما يخصّ "النخب المثقفة"، والمناخات التي تشيعها، وربّما هي لا تختلف عن المناخات العربية، لكنّها في رام الله تكتسي طابعاً خاصاً يعكس الأزمات التي يعيشها هنا المثقفون والمبدعون والمتعاملون بالشأن الثقافي، وما يجري هنا من خلافات و"نميمة" تؤشر على صراعات حادة، وعنيفة أحياناً، لأجل مكاسب صغيرة وتافهة.
ولعلّ الأخطر في عالم "النخبة"، هو العلاقات في ما بينها، مؤسساتٍ وأفراداً، من جهة، ومن جهة ثانية بين هذه النخب وبين المؤسسة الرسمية (السُّلْطة) بدوائرها كلّها، الثقافية وغير الثقافية، بما في ذلك العلاقة مع المؤسسة الأمنية ورجالاتها، وهذا ليس مجرد انطباع عابر، بل هو نتاج معايشة، ولو سريعة، لهذا النوع من العلاقة التي لا يتورّع المثقّف فيها عن التقرّب (والتزلّف) لواحد أو أكثر من كبار رجال الأمن، حيث المصالح المتبادلة.
اقرأ أيضاً: الفلسطيني شحادة شلالدة.. صانع الكمان ومُداويها
وفي هذا الصدد أيضاً، فإنه لصحيح ما قاله الصحافيّ بارت حول هذه النُّخب، وإنها "جاهزة لبيع خبراتها"، فأنت هنا تستمع إلى الجدل الدائر بقوّة في ما يخصّ المنظمات غير الحكومية، منظمات المجتمع المدني، وهو ما يعبّر عنه بارت بالحديث عن "تأسيس منظمات غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان، لدراسة الديمقراطية أو لتعزيز دور المرأة"، وبذلك "دخلت هذه النخبة المثقفة في مسار تغريب يتيح لها سهولة أكبر للحركة الدولية وزيادة للموارد لا يستهان بها".
وفي رام الله، تستطيع أن تلحظ الحضور المميّز للعنصر الأجنبيّ، في الشوارع كما في الفنادق والأسواق، حضور يعني أن المدينة تمتلك معالم سياحية، وقد قرأت لاحقاً رواية عبّاد يحيى "رام الله الشّقراء"، الرواية التي يركز بطلُها على كثافة حضور العنصر الأجنبي في المدينة، وملامح هذا الحضور، فيقول "أشعر أنّنا نعيش أكثر المراحل انكشافاً، ولا ملاذ ولا ملجأ لنا أمام كلّ هذا الاستهداف، لا أدري إن كان هنالك مكان في العالم يدخل إليه هذا الكمّ الهائل من الأجانب ولا تملك السلطات المسؤولة فيه أيّة معلومات عنهم، ولا تملك أن تحتج على أيّ نشاط يمارسونه، السلطة هنا هي على الفلسطينيين فقط، حرفياً هي علينا نحن فقط".
يترافق الحضور الأجنبي هذا، مع حضور أمنيّ بارز، سواء كان لرجال أمن السلطة الفلسطينية، أم لأمن الاحتلال، وهو "أمن" موجّه في الأساس لمراقبة ومنع أية مظاهر وطنية يمكن أن تستفز المحتلّ وجيشَه ذا الحضور المكثّف في شوارع المدينة وساحاتها. وهنا تلفتنا ملاحظة في رواية عباد حين يقول "إنّ الأجانب يسيرون حاملين آلات التصوير بكلّ أشكالها (...) ولا يجدون من يسألهم عن المواد المصورة ولأيّة جهة تذهب!".
اقرأ أيضاً: لاجئو "قدورة".. قضايا واستثمارات تنذر بترحيلهم من المخيم
قد يكون هذا طبيعياً للبعض، ولكن تأتي فوراً ملاحظة أنّ "العجيب الغريب" أنّ الحال في غاية الاختلاف إذا كانت "العين وراء العدسة فلسطينية"، ففي هذه الحال، كما يقول الروائيّ، على الأقلّ "تُصادَر الكاميرا غالباً، ولا ينجو صاحبها وإن كان صحافيّاً"، حتى أن البطل يطلق على هذا الزمن كله "زمن الانكشاف"، ويقول معلّقاً على كثافة عمارات الزجاج التي تتكاثر كالفطريات في رام الله "شعب الحجارة يتحوّل إلى شعب الزجاج".
وفي خضمّ التحوّلات الجارية في المدينة، يجري الحديث عن المقاهي "الشبابيّة" في الأحياء الراقية، وتستطيع مشاهدة الكثير منها منتشرة بصورة لافتة، وبعضها يستقبل المرتادين حدّ الاكتظاظ، ويلفت الانتباه إليها هذا الخليط البشريّ من ذكور وإناث، والحضور اللافت للنارجيلة لدى الجنسين، كما حضور ورق اللعب لدى جيل الشباب أيضاً. إنها المقاهي التي تجمع بين صور من الموروث وبين "الحداثة" التي تبلغ حدود "الصرعة" الاجتماعية/ الثقافية الطارئة على المجتمع.
قريباً من هذه المظاهر الباذخة، وملاصقاً لها تقريباً، تقع مظاهر البؤس والشقاء، مجسّدة في المخيمين المعروفين في رام الله، الجلزون والأمعريّ، حيث البيوت المتراصّة، والأزقّة الضيّقة بالكاد تمرّ منها سيّارة، وبعض الأزقة لا يسمح لشخصين بالسير معاً. والأشد بؤساً مشهد أطفال المخيم وألعابهم الفقيرة مقارنة مع ما يجري على "مرمى حجر" منهم. وهنا، في المخيم فقط، ما تزال بعض مظاهر "النضال" والمواجهات مع المحتلّ تأخذ مكانها. صور الشهداء والشعارات على الجدران والأغاني "الثورية" تصدح في الأرجاء.
اقرأ أيضاً: بالصور: أوّل مأذونة شرعية في فلسطين