رجال في الشمس... عن ضرورة الرواية

06 مارس 2018
+ الخط -
إن الروائي هو بطريقة ما شخوص روايته، هو محصلة تجاربهم، هو مصيرهم الذي اجتازه، هو نجاتهم وخلاصهم المؤكد، هو ذلك الهروب المعلن إلى الرواية القادمة..

حينما وضع غسان كنفاني روايته الأولى كان يهرب من مصير أبو قيس وأسعد ومروان، من الخزان الملتهب، غسان الذي لم يهرب من الاحتلال الإسرائيلي -أكثر عدو هرب منه العرب-، هرب من روايته، ليس خوفا من الموت، بقدر ما كان خوفا عليه، غسان خاف على الموت، خاف من أن يكون الموت الإنساني مجردا من أي معنى، كان يحاول أن يعبر من موت اللا فعل، موت الخزان الصامت إلى موت زخات الرصاص، إلى الانفجار المدوي، الذي يتطلبه أكثر من ثائر، وأكثر من روائي.

كانت الرواية التجريبية الأولى في فلسطين، "رجال في الشمس"، تدين الواقع العربي والفلسطيني بصورة مفزعة، حين كان اللاجئ ينتظر يدا خفية تعيده إلى بيارات فلسطين، إلى شواطئ عكا وغزة وحيفا، إلى رام الله والجليل والناصرة، جاءت يد غسان كنفاني لتصفعه..

كان غسان وهو مطارد من قوى الأمن اللبناني يصنع صفعة أدبية تنصب على خدودنا اليائسة في مخيمات اللجوء والمدن العربية، وكانت هذه الصفعة متواترة تتبعنا جيلا وراء آخر، وكنا في كل مرة ندفع لأجل أن نشتريها، نعم، على الإنسان أن يدفع من أجل صفعة تيقظه من وقفة العجز المميتة، كان الفلسطينيون خلال سنوات النكبة وما تلتها على رف مهمل يأكلهم الفقر والذل والقهر خارج الزمن والمكان، تماما مثل الشخوص العاجزة في خزان "رجال في الشمس"، حين جاء السؤال الصادم "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟" في خاتمة الرواية، ليدق في حياة الواقع أسئلة لا حصر لها عن المصير الفلسطيني في ظل حالة الشلل العربي والفلسطيي.


مطلع العام 1965 في نقطة عيلبون في الجليل الأعلى، جاء الفعل الفلسطيني الأول مدويا كما يجب، حين استهدفت قوة وليدة فلسطينية تحت مسمى العاصفة نفق مياه للاحتلال الإسرائيلي، حينها فقط كان يمكن أن نحكي عن طريقة عنيفة لدق جدران الخزان، وهكذا بدأ الفعل ينبئ بفعل أكثر شراسة، ودشن بدءا من هذه اللحظة حديثا طويلا عن مقاومة فلسطينية تسعى أولا وآخرا للخروج من عجز مقيت إلى الدافعية والاستمرارية، وانهمر حشد من الشهداء على امتداد الوطن، يطرق كل واحد منهم بطريقته الخاصة خزانه الذاتي، والخزان الكبير الجمعي الذي يطوقنا جميعا، جيلا بعد آخر، علمنا شهداء الأرض الطرق، والطرق حتى النفاذ إلى الفضاء الرحب الواسع من الرفض والمقاومة، إنهم على مدار أكثر من 50 عاما يطرقون الجدران بالشراسة التي ستوقف سؤال غسان على الإجابة الأكثر حتمية، الإجابة الدامية: إنهم الشهداء المقاومون، الشهداء هم الصوت الفلسطيني الشرعي المفقود منذ صدور الرواية الأهم فلسطينيا خلال سنوات ما بعد النكبة وإلى اللحظة الراهنة.

آلاف الأعمال مرت منذ "رجال في الشمس"، أعمال تتفاوت في تأثيرها وقربها من الواقع الفلسطيني، في قدرتها على المزج بين الرمزية والواقعية، في لغتها وبنائها، وموقفها ورؤيتها، إلا أن الرواية الكنفانية الأولى هي فوقهم جميعا، ليس لأن بطلها الأهم استشهد في بيروت عام 1973 في تجسيد مريع لدور الكاتب في نصرة قضيته أدبيا وروائيا، بل لأنها رواية الفعل الفلسطيني، رواية الصفعة، رواية تستمد حضورها مع كل شهيد يرتقي لأجل أن يظل الفعل قائما، وتستمد حداثتها مع كل جهد مقاوم على اختلاف مستوياته وأشكاله وتأثيره..

اليوم في زمن الشلل الكلي للحالة العربية نحن أحوج ما نكون إلى قراءة غسان مرة أخرى، وقراءة رجال في الشمس عشرات المرات الأخرى، للفهم أولا، ومن ثم الانطلاق من هذا الفهم إلى سلوك واع يقودنا إلى الخطوة الصحيحة في درب فلسطين الوطن الذي لحقت به تشوهات جسيمة على مستوى فهمه، فلسطين الهوية والشهيد والأدب، ليست تلك التي يحاولون فرضها على واقعنا المترهل، فلسطين الأسير واللاجئ والتقاء البحر بالنهار، وليست جغرافية أوسلو، وعبثية مسار التفاوض الانتحاري.

تقف الرواية اليوم على رأس الفنون الأدبية الأكثر تأثيرا في جيل الشباب التواق للغة القوية العميقة والسرد المتين النافذ إلى ما بعد القصة، إننا الآن نكاد نرى أبو الخيزران يقودنا إلى هاوية أكثر انتحارية من خزان سيارته الملتهب، ولكن نرى على الجهة المقابلة، شخصية خفية، وجدت في هاجس غسان وإن لم تحضر في "رجال في الشمس" حضرت بقوة في "ما تبقى لكم"، حامد المطعون في شرفه، في صحراء النقب، يحاول الهرب، ولكنه بدلا من ذلك يقاد بفعل مؤلف عبقري إلى لحظة مواجهة مع جندي إسرائيلي، يقتله حامد، وهكذا يصير المخلص شابا في عرض الصحراء، حامد يقف الآن على سفح الطريق ليقول أو يصرخ، أو يصفعنا حتى.. ليس هناك إلا موت مجاني، هنا فقط الموت بشرف الفعل، الحقيقة الصارخة، هنا متسع من يد وقوة لدق جدران الخزان.
C0BA4932-E7DF-48F8-A499-8FAA0D6C1F19
عدي راغب صدقة

أدرس تخصص الصحافة والإعلام في جامعة البترا... أهتم بعديد الشؤون العربية، ولكن أولي اهتماما خاصا بالشأن الفلسطيني.