في عام 1642، رسَم رامبرانت (1606 - 1669) "دورية الليل" (أو الخفارة الليلية)، إحدى أشهر لوحاته التي تجسّد فرقة الكابتن كوك المكلفة حينها بحراسة أحد أحياء أمستردام، لكنها لم تنل إعجاب أعضائها، كما هاجمها النقّاد إلى درجة جعلت صاحبها يعيد النظر في تجربته التي تعدّ محطّة أساسية في عصر الباروك.
افتتن صاحب "النزول من الصليب" بالأعمال التاريخية لدى عدد من الفنانين الإيطاليين، وفي مقدّمتهم كارافاجيو، لكنه استطاع أن يطوّر أسلوبه عبر تصوير الأحداث والوقائع في مساحات كبيرة وتقديمها بأسلوب مسرحي دراماتيكي وإبراز تفاصيل توحي بالحركة والصوت في مشهد صامت.
حتى الثاني من شباط/ فبراير المقبل، يتواصل في "غاليري دولويتش بكتشر" Dulwich Picture Gallery في لندن معرض "ضوء رامبرانت"، الذي افتتح في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ويضمّ خمساً وثلاثين لوحة وعملاً طباعياً تُعرَض بمناسبة مرور ثلاثمئة وخمسين عاماً على رحيل الفنان الهولندي.
اهتمّ رامبرانت منذ بدايات مشواره بتقديم أعمال مغرقة بالتفاصيل الدينية والاستعارات المختلفة، وصعد اسمه في مسقط رأسه؛ مدينة ليدن، قبل أن ينتقل إلى أمستردام عام 1631، في مرحلة عاشت هولندا ازدهاراً اقتصادياً كبيراً مع تأسيس موانئها التي ربطت أوروبا بالعالم كلّه.
استقرّ رامبرانت في العاصمة بعد تحوّل الكنيسة في بلاده إلى البروتستانتية، ولم تعد تحفل برسم الأيقونات والتماثيل التي كان ينجزها الفنانون لقاء هبات جزيلة، وكان عليه أن يؤمّن دخله من خلال بيع لوحاته للناس مباشرة، حيث رسم العديد من الأعمال التي توصف بـ "التجارية" رغم أن المستقبل أثبت أنها تحتفظ بقيمة فنية عالية.
شهِد عام 1639 نقطة تحوّل كبيرة مع تقديمه أبرز لوحاته التي حقّقت أعلى الإيرادات في عصره وصولاً إلى عام 1658، حيث تراجعت مكانته بشكل متسارع معلناً إفلاسه وبيع منزله الذي احتضن عقدين ذهبييْن من حياته يهدف المعرض إلى تقديمها بشكّل مفصل ومعمّق.
في تلك المرحلة، قدّم رامبرانت رؤية جديدة في التعامل مع الظل والنور بدلاً عن تلك التي كانت شائعة في الفن الإيطالي حيث الضوء يدخل من زاوية واحدة يضيء بقعة محدّدة بينما باقي اللوحة معتمة، لكنه عالج لوحته بشيء من التعقيد موزّعاً بؤر الظلمة والإنارة، خاصة في انعكاسها على الوجوه التي أضفى عليها تعبيرات متعدّدة وغنية، ما ينتج حولها قراءات وانطباعات مختلفة.
يضمّ المعرضة لوحة "امرأة تستحم في جدول" (1654) والتي رسم فيها امرأة وهي ترفع ثيابها محدّقة في الماء الذي يغمر ساقيها، و"امرأة في السرير" (1647) التي تصوّر فتاة ضخمة تنهض من فراشها وتنظر باتجاه الضوء، و"فتاة النافذة" (1645)، وهي لوحة تبرز تلك المشاعر المختلطة، فالفتاة تبدو أنها تبتسم بنظرة تأمّلية عميقة.
من أين أتى هذا الضوء؟ لا مصدر له في اللوحة لكنه يتوزّع تفاصيلها بإتقان دون أن يُحدث تبايناً أو تضاداً نافراً، أو يفسد جمالها، بل إنه منح تلك اللقطة الثابتة الصامتة حركة من داخلها، بحيث لا يملّ المتلقّي من التحديق.