بعد اثنتي عشرة سنة على آخر معرض أقامه في الرباط، يعود التشكيلي السوداني، راشد دياب، إلى العاصمة المغربية، عبر معرضٍ جديد بعنوان "ظل الضوء"، افتُتح مؤخّراً في "الرواق الوطني باب الرواح"، ويستمر حتى يوم الجمعة المقبل.
تُعدّ تجربة دياب، المولود في مدينة واد مدني السودانية عام 1957، واحدةً من التجارب الطلائعية البارزة في السودان والعالم العربي. ومنذ بداية مساره الفني، اختار الهجرة إلى الخارج، من أجل تحصيل معرفة جمالية وأكاديمية في الجامعات والمعاهد الغربية المتخصّصة.
بعد حصوله على أولى شهاداته من "كلية الفنون الجميلة والتطبيقية" في الخرطوم، عام 1978، سيقرّر دياب سنة 1982 الالتحاق بـ "كلية الفنون الجميلة" في كمبلوتنسي، في مدريد، التي سيقضي فيها قرابة عشرين سنة، درس خلالها التلوين والحفر، قبل أن يختتم هذا المسار الأكاديمي بالحصول على الدكتوراه، من "جامعة مدريد المركزية"، في موضوع خصّصه لمقاربة فلسفة الفنون التشكيلية السودانية. في وقت لاحق، عمل الفنان مدرّساً في الجامعة نفسها، قبل أن يقرّر العودة للاستقرار النهائي في الخرطوم، التي افتتح فيها غاليري "دار الفن التشكيلي"، ومركزاً للفنون يحمل اسمه.
من خلال الاطّلاع على أعمال معرض دياب الجديد، نجد أنفسنا أمام تجربة تمثّل نموذجاً لفعل فنّي متجدّد، يراهن على استثمار البيئة المحلية الوطنية، وما تجسّده من تراث شعبي وثقافة عالمة أصيلين، في أفق إنتاج عمل يعكس خصوصية وعراقة الحضارة السودانية، التي تجرّ خلفها أكثر من سبعة آلاف سنة من الحضور التاريخي الفعّال في العمقين العربي والأفريقي على حد سواء.
وإذا كان هذا التماهي مع البيئة السودانية قد تحقّق في أعمال الفنان الأولى، عبر التركيز على أسلوبية تشخيصية واضحة، بما هي نقل خاص لملامح واقع معطى، فإن الدينامية التي راكمها دياب، في مراحل لاحقة، وصولاً إلى منجزه الفني الحالي، قد راهنت على أسلوب جديد، يحضر فيه النفَس التشخيصي ممزوجاً بلمسة تجريدية حذرة، تتّسق مع الفضاء العام للوحة؛ ما يشير إلى ملامح "انقلاب فني"، قد يقود الفنان - في أعمال مُقبلة - إلى استثمار معرفته الجمالية في بناء عالم تجريدي خالص.
يظهر هذا الطموح واضحاً، من جهة، في تركيبة عمله الفني؛ إذ غالباً ما يلجأ دياب، على مستوى استغلال فضاء اللوحة، إلى اعتماد تقنية إقلالية (Minimaliste) في توطين مفرداته التشكيلية، وهي، في الغالب، عبارة عن رسومات شبه مجرّدة لنساء مُتّشحات بلباسهن المحلي الملوّن، وهن سابحات في فضاء لا متناه؛ حيث تحضرن بلا ملامح، منزويات في ركنٍ ما من أركان اللوحة، بشكل يوحي بالعزلة والهامش وغياب الوجهة. التوظيف نفسه، المُنحاز إلى تقنية الإشارة عوضاً عن الإفصاح، ينسحب كذلك على بعض الأشكال الهندسية المجرّدة، التي يعمد الفنان إلى تثبيتها في أركان قصية من لوحته، بما يخلق تناغمية شكلية تضمن توازناً لافتاً داخل فضاء العمل الفني.
من جهة أخرى، وعلى مستوى التوظيف اللوني داخل لوحته، يبدو واضحاً أن دياب بقي وفياً، في عدد من أعماله الأخيرة، لشغفه القديم بتلك التركيبة اللونية المتنوعة والحارّة، التي كانت طاغية على مجمل منجزه الفني؛ وهي تركيبة تعكس طبيعة إنسان الجنوب، وعلاقته الطقوسية والروحية بهذا العنصر السحري، وبتجذّره داخل الثقافة الأفريقية. هذه التفاصيل، نجد لها نظائر في التشكيل المغربي، وفنون أخرى هناك، مثل موسيقى الكناوة في المغرب، وبعض الأنماط الموسيقية في هذه القارة الأم.
في مقابل ذلك، تبدو بعض الأعمال المعروضة وكأنّها قد هيمنت عليها كتل لونية أحادية، تحتل الحيز الأكبر من فضاء اللوحة؛ وهي أعمال يعمد فيها الفنان إلى توظيف العلامات الشكلية، سواء الهندسية أو رسمات النساء أو بعض الموتيفات الغرافيتية الهلامية وغير الواضحة، بالمنطق الإقلالي نفسه؛ أي في حيّز يكاد يكون هامشياً ومتطرّفاً. بل قد تغيب كل هذه العلامات، في أعمال أخرى، لتفسح المجال للغة لونية خالصة، تظهر على شكل لطخات وبقع تلوينية مجرّدة، غالباً هي تلميح إلى ما يطمح الفنان إلى تجريبه كأسلوب جديد، يعمّق نظرته الجمالية، ويطوّر لمسته الفنية.
بقيت الإشارة إلى أن راشد دياب قد سبق له أن كرّس لتجربة لاقت صدى طيباً في العالم العربي وفي الخارج؛ هي عبارة عن سلسلة من الأعمال الفنية المستوحاة من قصائد لشعراء من السودان، مثل محمد المهدي مجذوب وعبد الهادي الصديق وصلاح أحمد إبراهيم، أو من العالم العربي، خصوصاً مع الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي. تجربة تعكس، إلى حد كبير، طبيعة هذا الفنان المنفتح على أنماط إبداعية أخرى، بما يدعم مشروعه ورؤيته الفنيَّين.
اقرأ أيضاً: ستيف سابيلا.. طبقات المنفى والمنفى