رائد وحش... "السيئ لقلبك جيد لقلمك"

03 ابريل 2017
+ الخط -
 

حاولت كثيرا أن أكتب مقالة مطولة عن ديوان رائد وحش الأخير "مشاة نلتقي.. مشاة نفترق" (دار المتوسط) أعرض فيها أهم القضايا التي طرحها الديوان، والتحدث عن لغته وأسلوبه وأساطيره، ولكن لم أنجح في ذلك.

في الحقيقة لم ينجح وحش في ذلك أيضا، فالكاتب المولود في دمشق، عام 1981 من أصول فلسطينية، لم يكتب ديوانا كاملا، وإنما يبدو للوهلة الأولى أنه مجموعة من البيانات العسكرية بطابع أدبي. وهنا توقفت عن محاولة الكتابة. بعد ذلك أعدت قراءة الديوان، ليتبين لي خطأي، هذه ليست بيانات عسكرية، هذه أشلاء لم تتوقف عن النزيف بعد، لم يسعف الوقت صاحبها ليزخرفها أو يهذبها، فقدمها للقارئ وما زالت منقوعة بالدم والألم، والغضب بالطبع.

لم تندمل جراح وحش بعد، يقول في إحدى قصائد الديوان: "أكتب لكِ من تخوم المجزرة/ رائحة الهواء دم/.. في اللحظة التي أدق فيها الكيبورد/ يدقّ آخرون صدورهم بكاة". حزنه لم يزل طازجا، وإن كان هذا الأمر قد أثر بشكل واضح على طرحه للقضايا في الديوان ولغته أيضا. إلا أنه لم يستطع غير ذلك، فهل يستطيع الشاعر التنصل من أكثر من نصف عقد من الدم وجثث الأطفال المتفحمة في وطنه؟ والتي لا يبدو أنها ستنتهي قريبا – للأسف -.

مأساة السوري المستمرّة منعت وحش من التعمّق في خطابه الشعريّ، هاجس الموت اليوميّ حال دون استطاعته أن يتجاوز عدوه، وبالتالي عدم القدرة على تحويله لرمز، أو لآخر موضوعي، وإنما لعدو مباشر فقط. إنه لا يريد أن يعلم الأعداء درسا في الشعر الجاهلي، أو تربية الحمام بطبيعة الحال. 

يبدأ الديوان، ويبدأ صوت الشاعر الخاص معه. وتبدأ لغته الأصيلة أيضا، وهي لغة تبتعد عن تدفق القصيدة العربية الكلاسيكية ونفسها الملحمي، كما وتبتعد عن الموسيقى الطويلة، لصالح النغمات والضربات الموسيقية السريعة، وبالتالي فهي تستخدم معجما لغويا شفافا، ومباشرا.

مباشرة اللغة الشعرية في النص لا تعني افتقارها للمجاز، أو للمستوى العالي من الروح الشعرية، بقدر ما تعني استخدام ألفاظ مناسبة لطريقة الشاعر في الكتابة. ألفاظ تلبس المعاني، ثم لا تكون فضفاضة عنها، أو فائضة عن الحاجة. ولا أدري إن كان لطبيعة عمل رائد الصحافية تأثير على هذا الأمر، إلا أن في الديوان محاولات كثيرة وناجحة للانفلات من هذه اللغة.

كما اعتمد الشاعر في تناوله للقضايا التي تحدث حولها، على قصيدة تساعده في الإحاطة بأكبر عدد من الزوايا التي يمكن النظر منها إلى القضية، فقصيدته تحتوي في داخلها عدة قصائد، اختار عنوانا عاما لها، ثم رقّم مقاطعها وأعطى كل مقطع العنوان ذاته، والذي يتغير هو رقم المقطع فقط، دلالة على تعدد الزوايا وثرائها لدى الشاعر. ويظهر ذلك جليا في بعض المقاطع عندما يذكر الزاوية التي يتكلم منها.

كما يظهر التأثر في العديد من القصائد بالأسلوب الختامي المفاجئ أو بأدب الدهشة، كما يصفه بعض النقاد. وهو أسلوب بدأ مع الفن القصصي أو الحكائي بشكل عام، فيؤكد الشاعر من خلاله على صلة الشعر المعاصر بالحكاية وبالسرد. وفي المقطع الأخير من القصيدة أو السطر الشعري الأخير يفاجئ القارئ بإعادة ترتيب أفكار القصيدة، أو المساعدة في فهمها ووضع النقاط على الحروف.

يشبه هذا الأسلوب أسلوب الكاتب الأوروغواياني "إدواردو غاليانو" في معظم كتبه، كالمعانقات وكلمات متجولة، وكرة القدم. أما على المستوى الفلسطيني، فقد بدأ كتابة هذا الأسلوب حسين البرغوثي، وحاوله إبراهيم جابر إبراهيم، وصولا إلى زياد خداش في كتابه خطأ النادل وغيره.

أما صاحب "قطعة ناقصة من سماء دمشق"، فقد سحب هذا الأسلوب إلى نهاية الديوان أيضا، وليس إلى نهاية القصيدة فقط، فعلى طريقة مريد البرغوثي في ديوان "منطق الكائنات" أو رواية سنان أنطون الأخيرة "فهرس"، أنهى الشاعر ديوانه بقفشات سريعة، يتقمص فيها منطق أشياء كثيرة قد تكون جمادات في بعض المرّات، وربما هذا أجود ما في الديوان، أو أفضل ما يحسنه رائد.

يتكرر التناص بالمجمل غير مرة في الديوان، فيستخدم وحش تناصا مع الشعريّ الآخر، كما يستخدم تناصا تاريخيا ودينيا، ولكنه لا يستخدمه لدعم أطروحاته، وإنما يستخدمها نفيا للتناص الأصليّ. يقول وحش في قصيدة غياب 17:

ماذا سأكتب؟

"عيون المها" مفقوءة!

والمسافة "بين الرصافة والجسر"

حواجز للجيش أو قناصون؟

ويقول في موضع آخر: "أنا من أدفن نفسي... وأنا من يندبها"، فيبدو متأثرا بمالك بن الريب، الشاعر العربي الأول الذي لم ينتظر من يرثيه، فرثى نفسه. والذي أخذ من قصته الشهيرة تناصا في قصيدة كاملة مرت في الديوان، دلالة على الألم السوريّ، الذي لا يجد له نادبا حتّى، إلا نفسه.

يؤكد رائد وحش دائما على وجود نقيض الشيء داخله، ابتداء من عنوان الديوان، ومرورا بمقاطع كثيرة من الديوان، وليس انتهاء بالنهايات المفاجئة في بعض القصائد. وكان هذا جوهر هذه المجموعة، وهو، ربما، جوهر الشعر كله.

أخيرا، فإن في المجموعة لقطات بديعة وواضحة، بقدر وضوحها اللغوي، والأخلاقي. ورائد وحش شاعر ابن عربيّته، وابن رموزها وأساطيرها وحكاياتها، من امرئ القيس مرورا براثي نفسه في الصحراء بجانب وادي الغضى، وانتهاء بالشاعر السوري عبدالله الفاضل. شق طريقه الخاص بلغته ومعجمه وصوره، وسار عليه بدلالاته وأساطيره وأبطاله.

  

 

 

2EA05B20-39FB-4116-AD7C-84A5BEA56C89
2EA05B20-39FB-4116-AD7C-84A5BEA56C89
عبدالقادر ذويب

كاتب وصحفي فلسطيني. يقول: "عندما تصبح الكتابة ضرورة، لا يصلح مكانها أي شيء في العالم".

عبدالقادر ذويب

مدونات أخرى