يكفي أن يشهد الواحد منا أحد الأعمال التركيبية الإنشائية والإنجازية لرائدة سعادة، كي يجد نفسه يغوص في عالم من السخرية والمأساوية والمتعة الجمالية، الممهورة بقوة الخيال وعمق البصيرة النفاذ. فهذه الفنانة المولودة في قرية أم الفحم بفلسطين سنة 1977، استطاعت بإبداعاتها أن تجدد دماء الفن الفلسطيني، وتمنحه زخمًا لا ينضب، وتمنح معه لجيل الفنانين والفنانات الشباب الفلسطينيين أفقًا عالميًا لم يصله من قبل، مقارنة مع الشعر والأدب.
جاءت رائدة سعادة للفن من بوابته الكبرى. فقد أدركت حدود اللوحة في التعبير عن معاناة الإنسان الفلسطيني ووجدت، بما يشبه اليقين، في التركيبات البصرية التي يقترحها الفن المعاصر، مسلكها الضروري نحو الإمساك بتشابكات الواقع الفلسطيني. لقد أدركت أن كل شيء يمر من جسدها الشخصي، وأن هذا الجسد الذي تنْوشم عليه تناقضات وضعيتها ووضعية شعبها وبني جنسها، وتنطبع عليه الوقائع التي تكاد تكون عجائبية، هو جسد من أجل الآخرين. هكذا بدأت أعمالها منذ بدايات الألفية الجديدة تتخذ منحى ساخرًا أحيانًا، ونقادًا مندّدًا أخرى.
وكأن رائدة قد تمثلت قول ابن عربي الذي يدعو كل امرئ منا يرغب في سبْر أسرار الآخر، أن يعود إلى نفسه لأنها جماع تلك الأسرار. بل وكأنها أدركت أيضًا أن الخيال خلاق، وأنه هو التركيبة الوحيدة التي تفصح لنا عن خبايا العالم.
اقــرأ أيضاً
هكذا صار كل عمل لها يبدو كتوليفة مدهشة تستطيع أن تلامس عمق الواقع وتنتج التأثير المتوقّع الذي يغير نظرتنا له. وكان أحد أوائل الأعمال التي نالت بها شهرتها العالمية هو "ملتقى الطرق" (2003)، وهو عبارة عن منجزة بالغة العنف والدلالة والمأساوية تبدو فيها الفنانة أمام باب بيتها حاملة حقيبة سفرها، وإحدى رجليها مغروسة في قطعة ضخمة من الإسمنت المسلح. إنه الكيان المحجوز للفلسطيني الذي يقف عند ملتقى طرق غير مستطيع تحديد وجهته ولا اختيارها. هذا الموقع البرْزخي هو الموقف المأساوي الذي يعبر عن البوْن الشاسع بين الرغبة وصخرة الواقع الصلبة. وهكذا أيضًا، ومنذ البداية أدركت رائدة أن الفن في وضعية الحجز والقمع والغصْب لا يمكن إلا أن يبني "شاعريته" على مبدأ المفارقة، باعتبار أن هذه الأخيرة توليد للمعنى المأساوي، من خلال أسلوب هو السخرية السوداء اللاذعة.
ليس غير الجسد الشخصي بقادر على تشخيص هذه النظرة المركَّبة. فالعمل الموسوم بـ"من يجعل مني كيانًا واقعيًا" (2005)، سار في الاتجاه نفسه، واتخذت فيه الفنانة نفسها وضعية الأوداليسكا (الغانية) الاستشراقية متلفّعة بورق الجرائد التي تحكي وقائع مأساة الفلسطينيين في غزّة. هذه المنجزة الفنية كانت البداية في تفكيك نظرة الآخر من خلال مسرحة الجسد الشخصي. تلتْ ذلك، في السياق التفكيكي نفسه، مجموعة من الأعمال التي تستوحي فيها الفنانة أعمالًا غربية بالغة الرمزية. فقد أعادت تشكيل الموناليزا، وعوضته ببورتريه حزين لوجهها لتعيد استيحاء أعمال فنانين عالميين آخرين.
وفي سلسلة "حكايات الحوريات" (2012) سوف تقوم في أعمال فوتوغرافية، وبالنبرة الحادة القاتمة نفسها، باستعادة شخصيات شهيرة من قبيل "بينيلوب" و"سندريلا". فقد صورت الأولى (وهي زوجة أوليس التي انتظرته وهي تحيك الصوف وتعيد حياكته حتى عودته) وهي تغزل كبّة صوف هائلة وفي خلفيتها منظر خراب من بيت حنينا. أما الثانية فقد صورتها وهي تتعثّر في فستانها وردي اللون وتضع على رأسها تاجًا كما في الحكاية الأصل، وفي الخلفية شوارع مدينة يافا ومتحف جانا غور. فإذا كانت حكاية بينيلوب كما تصوَّرتها وصوَّرتها الفنانة تحيل إلى مأساة المرأة الفلسطينية المهجَّرة التي تنتظر عودتها لمأواها بقدر كِبر كُبَّة الصوف، فإن حكاية سندريلا تحيل إلى التهجير العسْفي ليلًا لسكان ذلك الحي الفلسطيني، بحيث تم تحويل منازل السكان إلى أماكن سياحية مدرة للربح والسياحة.
في كافة هذه الأعمال "التفكيكية" تمارس رائدة سعادة تأويلًا على المعطى البصري، باعتباره ذاكرة راسخة في المخيلة والأذهان، وذلك من خلال تحيينه بصريًا ومنحه صبغته الحاضرة. وبما أن كل تأويل تحويل فإن هذه الحركية الفعالة التي تمارسها الفنانة تتم من خلال البحث عن مفارقة بين المعطى التاريخي البصري والخيالي ومأساة الزمن الفلسطيني الراهن، مما يخلق أثرًا ساخرًا باهرًا، يمنح المتلقي لأعمالها إمكان الفهم والتأويل لهذا الحاضر. وإذا كانت المفارقة الزمنية تنبني على الخلخلة، فذلك لأن أعمال رائدة ذات طابع سياسي واضح. وهذا البعد السياسي يتم بناؤه من خلال التركيبات والمفارقات ومن خلال غرسه في الذات المرئية، بحيث يغدو نسغ العمل الفني برمّته.
اقــرأ أيضاً
ففي السلسلة التي عنونتها "لا تحد ببصرك عن الجدار" (2012)، تتبدّى تلك المأساوية التي تجعل المشاهد يعيش مع الفنانة صورها ومنجزاتها البصرية في كامل عنْفها. هكذا نرى الفنانة وقد ألصقت بالجدار حبالًا وتجر الجدار عله يتحطم. فالجدار العازل في فلسطين يشكل قمة البلاهة الإنسانية التي تجعل من الفنانة في هذه المنجزة البصرية أشبه بدون كيشوت وهو يسعى إلى مقاومة قوى قاهرة ومحاربتها بما قل ودلّ من خياله وجسده. والحقيقة أن مخيلة رائدة سعادة مفعمة بالغضب والذكاء التأويلي، مما يجعلنا نحس في كل عمل من أعمالها بصدمة توقظنا من سباتنا وخمولنا البصري، وتزج بنا للتوّ في مدارات تولد المعنى في ما يشبه الانبثاق.
تبني رائدة سعادة لنا عالما مشحونا بالرغبة في إعادة تشكيل الحياة وتحويلها في الخيال إلى مسرحية قابلة للعيش. إن حسها التراجيدي يجعل فيديوهاتها وصورها الفوتوغرافية ومنشآتها ومنجزاتها، أشبه بسكين حادة تمس جلدنا بنعومة لا نحس بوخْزها إلا تنبثق دماؤنا ودماء الواقع فوّارة أمام أعيننا. وهي بذلك تجعلنا نؤمن بجموح كاسر بأن الفن المعاصر قد ظهر فقط ليبْرز المأساة المستعصية للشعب الفلسطيني؛ وأن القصائد واللوحات ستظل رغم صدقها وتصويريتها عاجزة عن الإمساك بالطابع البللوري لهذا الواقع المتراكب في الزمن والتاريخ والمتشابك في الحاضر. إنها تجربة خصبة تنصاغ على حدّ الموسى، وتخلق إيقاعها بعنف في صدمة الرؤية وتسافر بنا إلى أعماق المأساة الإنسانية.
وكأن رائدة قد تمثلت قول ابن عربي الذي يدعو كل امرئ منا يرغب في سبْر أسرار الآخر، أن يعود إلى نفسه لأنها جماع تلك الأسرار. بل وكأنها أدركت أيضًا أن الخيال خلاق، وأنه هو التركيبة الوحيدة التي تفصح لنا عن خبايا العالم.
ليس غير الجسد الشخصي بقادر على تشخيص هذه النظرة المركَّبة. فالعمل الموسوم بـ"من يجعل مني كيانًا واقعيًا" (2005)، سار في الاتجاه نفسه، واتخذت فيه الفنانة نفسها وضعية الأوداليسكا (الغانية) الاستشراقية متلفّعة بورق الجرائد التي تحكي وقائع مأساة الفلسطينيين في غزّة. هذه المنجزة الفنية كانت البداية في تفكيك نظرة الآخر من خلال مسرحة الجسد الشخصي. تلتْ ذلك، في السياق التفكيكي نفسه، مجموعة من الأعمال التي تستوحي فيها الفنانة أعمالًا غربية بالغة الرمزية. فقد أعادت تشكيل الموناليزا، وعوضته ببورتريه حزين لوجهها لتعيد استيحاء أعمال فنانين عالميين آخرين.
في كافة هذه الأعمال "التفكيكية" تمارس رائدة سعادة تأويلًا على المعطى البصري، باعتباره ذاكرة راسخة في المخيلة والأذهان، وذلك من خلال تحيينه بصريًا ومنحه صبغته الحاضرة. وبما أن كل تأويل تحويل فإن هذه الحركية الفعالة التي تمارسها الفنانة تتم من خلال البحث عن مفارقة بين المعطى التاريخي البصري والخيالي ومأساة الزمن الفلسطيني الراهن، مما يخلق أثرًا ساخرًا باهرًا، يمنح المتلقي لأعمالها إمكان الفهم والتأويل لهذا الحاضر. وإذا كانت المفارقة الزمنية تنبني على الخلخلة، فذلك لأن أعمال رائدة ذات طابع سياسي واضح. وهذا البعد السياسي يتم بناؤه من خلال التركيبات والمفارقات ومن خلال غرسه في الذات المرئية، بحيث يغدو نسغ العمل الفني برمّته.
تبني رائدة سعادة لنا عالما مشحونا بالرغبة في إعادة تشكيل الحياة وتحويلها في الخيال إلى مسرحية قابلة للعيش. إن حسها التراجيدي يجعل فيديوهاتها وصورها الفوتوغرافية ومنشآتها ومنجزاتها، أشبه بسكين حادة تمس جلدنا بنعومة لا نحس بوخْزها إلا تنبثق دماؤنا ودماء الواقع فوّارة أمام أعيننا. وهي بذلك تجعلنا نؤمن بجموح كاسر بأن الفن المعاصر قد ظهر فقط ليبْرز المأساة المستعصية للشعب الفلسطيني؛ وأن القصائد واللوحات ستظل رغم صدقها وتصويريتها عاجزة عن الإمساك بالطابع البللوري لهذا الواقع المتراكب في الزمن والتاريخ والمتشابك في الحاضر. إنها تجربة خصبة تنصاغ على حدّ الموسى، وتخلق إيقاعها بعنف في صدمة الرؤية وتسافر بنا إلى أعماق المأساة الإنسانية.