رئاسيات تونس: عقاب جماعي للسياسيين

16 سبتمبر 2019
النتائج حملت مفاجآت كثيرة (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -
تتابع صدور الأرقام الأولية الخاصة بالدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية، والتي جرت أمس الأحد، مؤكدةً أن هناك شبه إجماع لدى الناخبين على ضرورة البحث عن جديد مخالف يقطع مع كل شيء تقريباً من ثوابت المشهد السياسي التونسي المعروف إلى حد الآن.

وتصدر الأكاديمي المستقل قيس سعيد النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية بحصوله على نسبة 18.9 في المائة من أصوات الناخبين، وذلك بعد فرز نحو 39 بالمائة من الأصوات.

كما تشير النتائج الأولية، بحسب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إلى أن رجل الأعمال نبيل القرويّ حل في المرتبة الثانية بنسبة 15 بالمائة من أصوات الناخبين، بينما جاء مرشح حركة "النهضة" عبد الفتاح مورو في المرتبة الثالثة بنسبة 13.1 بالمائة يليه عبد الكريم الزبيدي بنسبه 9.9 بالمائة.

وتبيّن عملية تحليل هذه الأرقام، وإن كانت سابقة لأوانها؛ أن غالبية الناخبين عبرت عن رغبتها في التغيير الجذري، بمعنى محاولة إرساء مشهد جديد تماماً، على الرغم من نجاح المنظومة التقليدية في الحد من خسارتها ومنع الانهيار التام.

ورغم أن النتائج تبدو مفاجئة وصادمة لكثيرين إلا أن المدير العام لمؤسسة "إمراد كونسلتينغ"، نبيل بالعم، أكد في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الطبقة السياسية في تونس لم تكن تقرأ جيداً نتائج معاهد سبر الآراء السابقة أو تحاول الاستفادة منها رغم أنها آلية ضرورية للديمقراطية، معتبراً أن "الساسة لم يأخذوا الأمر بجدية. وللأسف أصابهم نوع من العمى ولم يحاولوا فهم أهمية سبر الآراء أو يتمعنوا فيها ويدرسوها".

وأوضح أن "النظرة السلبية السائدة لمؤسسات سبر الآراء. والترتيب الذي يتم إصداره كان يتم تجاهله، ومعه يتم تجاهل رسائل التونسيين وهو ما يفسر خيبة الكثير منهم".

ولفت إلى أنّ "الترتيب الحالي لا يعود إلى اليوم فمنذ أشهر عدّة توقعت مؤسسات سبر الآراء هذه النتائج"، مشيراً إلى أن "البارومتر السياسي لامرود والصادر بتاريخ 3 أكتوبر/تشرين الأول 2013 حينها، بين أن قيس سعيد هو الشخصية الثانية، التي يراها التونسيون الأقدر على قيادة البلاد".

وبين أن "شخصية قيس سعيد موجودة في مخيلة التونسي، وليست جديدة ولو درس الساسة الأمر لأحسنوا فهم الواقع"، مؤكداً أنّ "النتائج لم تشكل مفاجأة، وأنه قبيل إصدار النتائج بأسبوع توقعوا تصدر سعيد الترتيب يليه القروي ومورو، وأن النتائج التي لديهم قريبة جداً مما أصدرته هيئة الانتخابات إلى الآن، ولكنه لم يكن مسموحاً إصدارها للعموم قبيل الانتخابات وتم مد بعض المؤسسات المعنية بها".

وحول أسباب هذا التصويت لسعيد والقروي، قال إنّ "التونسي وفي ظل عدم تحسن الوضع الاقتصادي والمعيشي وفي ظل غياب مؤشرات إيجابية حول القدرة الشرائية والصراعات بين الأطراف السياسية جلها عوامل دفعت المواطن إلى رفض الشخصيات الموجودة والتوجه نحو شخصيات جديدة وهو سلوك انتخابي عقابي للنخبة والطبقة السياسية".

نتائج المعارضة مخيبة للآمال

وتدل الأرقام أن منظومة الحكم التي ترشحت لهذه الانتخابات، ممثلة في رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير دفاعه عبد الكريم الزبيدي ومرشح حركة "النهضة" ورئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو، ومديرة ديوان السبسي ووزيرة السياحة السابقة، سلمى اللومي، ووزير الصحة السابق، وسعيد العايدي، وبقية الأصوات الأخرى المنتمية للمنظومة ذاتها، كلها تحصلت مجتمعة على نسبة 33 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين بحسب النتائج الأولية، وهو ما يمثل تقريباً ثلث الناخبين، بينما تحصل ممثلون من خارج المنظومة، قيس سعيّد ونبيل القروي والصافي سعيد ولطفي المرايحي وسيف الدين مخلوف على حوالي 57 بالمائة من الأصوات، حصل عليها كل من قيس سعيّد 19 بالمائة ونبيل القروي 15 بالمائة ولطفي المرايحي حوالي 7 بالمائة والصافي سعيد بين 6 و7 بالمائة وسيف الدين مخلوف قرابة الـ5 بالمائة.

في المقابل أيضاً، جاءت نتائج المعارضة مخيبة للآمال حيث حصدت فقط حوالي 10 بالمائة، كان أكثرها للمنصف المرزوقي بحوالي 4 بالمائة. وتوزعت بقية الأرقام بين منجي الرحوي حمة الهمامي عبيد البريكي بـ1,6 بالمائة للثلاثة، فيما تحصل محمد عبّو على حوالي 4 بالمائة أيضاً.

"نداء تونس" في آخر الترتيب

وتحصل رئيس الحكومة الأسبق، مهدي جمعة، على حوالي 2 بالمائة من الأصوات، وزميله حمادي الجبالي على 0,2 بالمائة. بينما جاءت مشتقات حزب "نداء تونس" في آخر الترتيب، حيث حصلت سلمى اللومي على 0,1 بالمائة وسعيد العايدي 0,3 بالمائة وناجي جلّول 0,2 بالمائة.

ويتساءل مراقبون "لماذا لم يصوت الناخبون أو الغاضبون للمعارضة التونسية؟ حتى الراديكالية منها، اليسارية، والثورية التقليدية ممثلة في المرزوقي وعبّو بالذات، ولخطاب شعبوي مماثل، الهاشمي الحامدي، ولم يصوتوا أيضاً لخطاب راديكالي من نوع آخر تمثل في المرشحة عبير موسي المعادية للإسلاميين وحاملة لواء النظام القديم التي تحصلت على 3,9 بالمائة فقط؟".

يمكن اعتبار أحزاب وشخصيات المعارضة أبرز الخاسرين في هذه المعركة حيث كان يُفترض بفشل الحكومة أن يقود إلى صعودها هي بالذات، ولكنها لم تنجح في تسويق خطابها للغاضبين وفوتت بالتالي فرصة قد تكون تاريخية بالنسبة لها.

وجاء فشل ما يسمى بـ"العائلة الوسطية الحداثية" مدوياً، بسبب تناحرها في الصراع على الكرسي وتضخم الأنا لدى أغلب رموزها وأحزابها، وبالخصوص فشلها في تحقيق جزء من مطالب الناس وحاجياتهم الأساسية، إلا أن صعود نبيل القروي الذي يعتبر واحداً من أبناء هذه المنظومة، بل ومؤسسيها والفاعلين فيها، يطرح أسئلة مثيرة وكثيرة حول ما يمثّله القروي أو ما سوّق له من صورة على مدى الأشهر والسنوات الأخيرة.

ويبقى السؤال مطروحاً بخصوص حركة "النهضة" ومرشحها عبد الفتاح مورو، وهل تعتبر نتيجتها بالفعل خسارة لها؟ وما الذي ربحته وخسرته بالفعل من هذه التجربة الرئاسية الأولى وكيف ستكون تداعياتها على الانتخابات التشريعية المقبلة؟ وهل أدى صراع المرزوقي والغنوشي إلى خسارة كليهما في هذه التجربة؟ مع أن مجموع الأصوات التي تحصلا عليها معاً كان يمكن أن يُنجح أحدهما في المرور إلى الدور القادم.

ولكن هذا العقاب الجماعي الذي مارسه جزء من التونسيين لم يستهدف فقط منظومة الحكم، وإنما امتد بالخصوص إلى المنظومة الإعلامية التقليدية، التي كان يُعتقد أنها تتحكم في صناعة الرأي العام، غير أن صعود قيس سعيّد أسقط تماماً هذه الأفكار ونبّه إلى طريقة أخرى في التواصل، يسميها البعض "اللاتواصل".

خلاصات

كل هذه المعطيات تؤكّد جملة من الخلاصات الهامة، أولها أن غالبية الناخبين بحثوا عن إرساء منظومة جديدة بالكامل، غير موجودة لا في النظام القديم ولا في الحكم ولا في المعارضة، ولكنهم لم يصوتوا لا للمرزوقي ولا للجبالي مثلاً رغم أنهما من خارج المنظومة نسبياً، وقد يكون هذا بسبب مرورهم بتجربة الحكم، أو بسبب أخطاء استراتيجية سياسية وانتخابية ارتكبها المرزوقي بالذات، لأنه كان يحمل في السابق لواء الغاضبين، ولكن اتضح أنهم غيروا الوجهة ووجدوا ضالتهم في شخصيات جديدة كلياً.

وعلى الرغم من أن كثيرين تفاجأوا من هذه النتائج إلا أن مؤسسات سبر الآراء المختلفة تؤكد أنها كانت تقدم إشارات لا تخطئ حول طريقة تفكير التونسيين قبل فترة طويلة من الانتخابات، ولكن يبدو أنه كان هناك استهتار سياسي عام أدى إلى إغفال تلك المؤشرات وقاد بالتالي إلى هذه الصدمة.