21 يوليو 2015
رؤساء الجزائر المتدربون
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
العصبية والدولة:
في أول خطاب وجهه الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، إلى الشعب الجزائري، عقب فوزه في رئاسيات أبريل/نيسان 1999، أطلق رصاصته الشهيرة على كل رؤساء الجزائر السبعة الذين سبقوه، بدءاً من الاستقلال: "انتهى زمن الرؤساء المتدربين". هكذا قالها من دون أن يرف له جفن، ومن دون خجل، حتى من رجل بأَنَفَةِ ليامين زروال، صاحب السبق الجزائري في الاستقالات. (من قيادة الجيش 1989، من سفارته في رومانيا1991، من رئاسة البلاد في11سبتبمر/أيلول 1998).
هذا حال الرؤساء مع الرئيس المستورد من منفاه، حسب نعت الصحافة الجزائرية، أما المرشحون المنافسون: آيت أحمد، مولود حمروش، مقداد سيفي، أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الله جاب الله، ويوسف الخطيب، فقد أشفقوا على أنفسهم من مزاحمة مرشح الجيش، في مناخ سياسي متحرش بالديمقراطية، فأعلنوا، قبل يوم من الانتخابات، انسحابهم.
طبعاً، لم يكن هذا يعني، من يومه، غير الرئاسة مدى الحياة، ولعل جنرالات الجزائر النافذين، وبين يديهم اليوم ما تبقى من بوتفليقة، يحسدون فراعنة مصر على متعة التحنيط، والقبور الثرية الخالدة، والحكم من الآخرة. ولماذا لا يحكم الأموات حينما تموت الشعوب؟ غير بعيد عن هذا صور بوتفليقة الشاب، سواء التي خاض بها الرئاسيات، أو التي تظهرها التلفزة الجزائرية اليوم؛ حينما تغطي ما تسميها "أنشطة الرئيس".
وعلى الرغم من أن عبارة بوتفليقة/الرصاصة تبدو وكأنها مجرد نزق وعُجب وغرور، وربما حتى انتقاما للنفس من سنوات التيه، بعيداً عن العز والصولة، فهي، في الحقيقة، تعكس فلسفة حكم بوتفليقة، تمتح من إرث الاستبداد الذي عانت منه الجزائر قروناً. لم يجانب المحامي والناشط الحقوقي الجزائري، علي يحيى عبد النور، الصواب أخيراً، وهو يصرح، ضيفاً على جريدة liberté الجزائرية: إننا نعيش في ظل دكتاتورية أقسى من ديكتاتورية كوريا الشمالية.
الوصول إلى الرئاسة في الجزائر يتم بالعصبية الغالبة، وهي عصبية الجيش، وليس بصناديق الاقتراع، وما يُؤخذ غلبة لا يُترك طوعاً، ولا تنزعه الصناديق. ووفق هذه الفلسفة، وهي المرجعية في آخر قلاع الديكتاتورية العالمية، فإن كل الرؤساء الجزائريين، وخصوصاً الذين أقيلوا أو استقالوا، سيظلون مجرد متدربين، لأنهم خذلوا، بضعفهم، وربما حتى بموتهم، عصبية العسكر، وهي الرئة التي تتنفس بها الجزائر. ولا وفاءَ طال، حتى ترسم دستوراً على الدستور، كوفاء بوتفليقة، الرئيس الذي لم يعد قادراً حتى على الدبيب والهمس. تبادله العصبية وفاء بوفاء أوفى، وهي تصفع ناصية ديمقراطيي الجزائر المشوشين: ما لَكُم هل سيحكم بقدميه؟ وحتى بشفتيه وأذنيه؟
الأخطاء القاتلة:
*لعل أبرزها اليوم "قاعدة" النفط مقابل الغذاء، وهي لا تقل فتكاً اقتصاديّاً عن خطأ الثورة الصناعية البومديينية. يوم كانت المقولات الاشتراكية تغري بالعمال حطباً لتدفئتها. فإذا كانت العراق المنهزمة وصلت إلى حد هذا الكفاف الأممي، فلأنها خرّت صريعة بضربات أزيد من 30 دولة، على رأسها القوة الأميركية الرهيبة، التي لم تكن تتغاضى وتتغافل، كما تفعل، اليوم، مع داعش. فمن أين هذا المأتم الاقتصادي الذي فُرض على الشعب الجزائري، وهو الذي لم يحارب المستعمر إلا ليتحرر اقتصاديّاً وسياسيّاً؟
هل يُعقل، ولو أن الرؤساء مُجردَ متدربين، أن تُدفع الدولة بكيفية انتحارية إلى الاقتصار في اقتصادها على عائدات المحروقات لا غير، وصولاً إلى نسبة 98%، لم يكن منتظراً أن تُنشط الثورةُ الصناعية المذكورة القطاعَ الفلاحي. لكن، من كان يتصور أن حتى البنية الفلاحية الكولونيالية التي خلفتها فرنسا في الجزائر، وقد كانت أكثر هيكلة وعطاء من مثيلتها في المملكة المغربية، سيدمرها حكام الجزائر، كما تسلسلوا، وكما خدمتهم بإخلاص عصبية الدولة المستقلة؟
آخر ما سمعت، بعد استيراد الخبز الإماراتي، استيراد الجزائر البصل. أعيش على مشارف الغرب الجزائري، ولا يوجد في قبيلتي فلاح مُسِن لا يحدثك عن الوفرة في الضيعات الكولونيالية، زمن الاحتلال. بل كل إنتاج سهوب الحلفاء من حبال وحُصُر، بالنجود العليا المغربية، كانت له وجهة واحدة: الضيعات الفرنسية في الجزائر. حتى الأرشيف الكولونيالي يشهد على حجم ما كانت فرنسا ما وراء البحار تغذي به نفسها في أوروبا، ولا سيما من الجزائر والمغرب.
اعتباراً لهذه المآلات التي لا نرضاها، مغاربيّاً، للجزائر، ولو أن وجهها الرسمي بعصبية مقيتة، يمكن النظر إلى "صوناتراك"، وقد تأسست غداة الاستقلال، على أنها الديناصور الذي التهم الأخضر واليابس، كما قيم المواطنة وأخلاق الثورة، في الجزائر. مؤسسة بحجم دولة لتحرير المحروقات استعبدت شعباً كاملاً، من دون أن تجعل منه سيد طعامه.
تصوروا أن ساكنة حاسي مسعود تسجل اليوم، في انتفاضتها، مطالب قروسطية في منتهى الغرابة: الحق في رخص البناء، الحق في الاستثمار، الحق في السكن اللائق، الحق في التظلم. وتصوروا أن تكون مطالب الجنوب الجزائري النفطي لا تتجاوز العيش الكريم. وما الذي جعل مالكية غرداية تصارع أباضيتها، لولا بطالة الشباب، وضعف البنيات الاقتصادية كلها، وانعدام التعليم والترفيه؟
كل مقومات الجزائر الخضراء متوافرة، ويقدر بعضهم المخزون من الماء بسعة الأبيض المتوسط، عدا إمكانيات التحلية البحرية، والتي لو توافرت للمغرب لكفى كل العرب غذاءهم. أين المشكل؟ ولماذا لم تستفد الدولة من أزمة عائدات البترول في مستهل الثمانينيات، لتقسم ألا تجوع أبداً؟
لا أرى من مشكل عدا كون ثقافة الفلاحة محتقرة في الجزائر، لأنها مغربية المحتد والأصل. فحينما أعلن الراحل الحسن الثاني، في مستهل الستينيات، شعار المليون هكتار، ونزله سدوداً فاتحة الأكف للسماء، ومغذية العروق في الأرض، كانت الجزائر تقيم نُصُباً للينين وستالين، وتستضيف الجنرال الفتناميجياب، بطل ديان بيان فو، لتهدد به المغرب الفلاح الذي لا يفهم في الاشتراكية.
صوناتراك تبيض ذهباً كل دقيقة، أما بطاطسك أيها المغربي الحسود، فقصيدة حولية رديئة. تَحَرُّك العسكر، كما اقتصادُه، مُستعجل دائما. لا حاجة لمن خطف دولة بـ"ريحة لبلاد" المغربية، ولا بقيم المواطنة، ولا بطلاء الأخلاق. هكذا، قررت الجزائر العسكرية أن تجوع الجزائر الشعبية، نكاية في المغرب. وهذا ليس خطأ متدربين، بل خطأ كارهين.
في أول خطاب وجهه الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، إلى الشعب الجزائري، عقب فوزه في رئاسيات أبريل/نيسان 1999، أطلق رصاصته الشهيرة على كل رؤساء الجزائر السبعة الذين سبقوه، بدءاً من الاستقلال: "انتهى زمن الرؤساء المتدربين". هكذا قالها من دون أن يرف له جفن، ومن دون خجل، حتى من رجل بأَنَفَةِ ليامين زروال، صاحب السبق الجزائري في الاستقالات. (من قيادة الجيش 1989، من سفارته في رومانيا1991، من رئاسة البلاد في11سبتبمر/أيلول 1998).
هذا حال الرؤساء مع الرئيس المستورد من منفاه، حسب نعت الصحافة الجزائرية، أما المرشحون المنافسون: آيت أحمد، مولود حمروش، مقداد سيفي، أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الله جاب الله، ويوسف الخطيب، فقد أشفقوا على أنفسهم من مزاحمة مرشح الجيش، في مناخ سياسي متحرش بالديمقراطية، فأعلنوا، قبل يوم من الانتخابات، انسحابهم.
طبعاً، لم يكن هذا يعني، من يومه، غير الرئاسة مدى الحياة، ولعل جنرالات الجزائر النافذين، وبين يديهم اليوم ما تبقى من بوتفليقة، يحسدون فراعنة مصر على متعة التحنيط، والقبور الثرية الخالدة، والحكم من الآخرة. ولماذا لا يحكم الأموات حينما تموت الشعوب؟ غير بعيد عن هذا صور بوتفليقة الشاب، سواء التي خاض بها الرئاسيات، أو التي تظهرها التلفزة الجزائرية اليوم؛ حينما تغطي ما تسميها "أنشطة الرئيس".
وعلى الرغم من أن عبارة بوتفليقة/الرصاصة تبدو وكأنها مجرد نزق وعُجب وغرور، وربما حتى انتقاما للنفس من سنوات التيه، بعيداً عن العز والصولة، فهي، في الحقيقة، تعكس فلسفة حكم بوتفليقة، تمتح من إرث الاستبداد الذي عانت منه الجزائر قروناً. لم يجانب المحامي والناشط الحقوقي الجزائري، علي يحيى عبد النور، الصواب أخيراً، وهو يصرح، ضيفاً على جريدة liberté الجزائرية: إننا نعيش في ظل دكتاتورية أقسى من ديكتاتورية كوريا الشمالية.
الوصول إلى الرئاسة في الجزائر يتم بالعصبية الغالبة، وهي عصبية الجيش، وليس بصناديق الاقتراع، وما يُؤخذ غلبة لا يُترك طوعاً، ولا تنزعه الصناديق. ووفق هذه الفلسفة، وهي المرجعية في آخر قلاع الديكتاتورية العالمية، فإن كل الرؤساء الجزائريين، وخصوصاً الذين أقيلوا أو استقالوا، سيظلون مجرد متدربين، لأنهم خذلوا، بضعفهم، وربما حتى بموتهم، عصبية العسكر، وهي الرئة التي تتنفس بها الجزائر. ولا وفاءَ طال، حتى ترسم دستوراً على الدستور، كوفاء بوتفليقة، الرئيس الذي لم يعد قادراً حتى على الدبيب والهمس. تبادله العصبية وفاء بوفاء أوفى، وهي تصفع ناصية ديمقراطيي الجزائر المشوشين: ما لَكُم هل سيحكم بقدميه؟ وحتى بشفتيه وأذنيه؟
الأخطاء القاتلة:
*لعل أبرزها اليوم "قاعدة" النفط مقابل الغذاء، وهي لا تقل فتكاً اقتصاديّاً عن خطأ الثورة الصناعية البومديينية. يوم كانت المقولات الاشتراكية تغري بالعمال حطباً لتدفئتها. فإذا كانت العراق المنهزمة وصلت إلى حد هذا الكفاف الأممي، فلأنها خرّت صريعة بضربات أزيد من 30 دولة، على رأسها القوة الأميركية الرهيبة، التي لم تكن تتغاضى وتتغافل، كما تفعل، اليوم، مع داعش. فمن أين هذا المأتم الاقتصادي الذي فُرض على الشعب الجزائري، وهو الذي لم يحارب المستعمر إلا ليتحرر اقتصاديّاً وسياسيّاً؟
هل يُعقل، ولو أن الرؤساء مُجردَ متدربين، أن تُدفع الدولة بكيفية انتحارية إلى الاقتصار في اقتصادها على عائدات المحروقات لا غير، وصولاً إلى نسبة 98%، لم يكن منتظراً أن تُنشط الثورةُ الصناعية المذكورة القطاعَ الفلاحي. لكن، من كان يتصور أن حتى البنية الفلاحية الكولونيالية التي خلفتها فرنسا في الجزائر، وقد كانت أكثر هيكلة وعطاء من مثيلتها في المملكة المغربية، سيدمرها حكام الجزائر، كما تسلسلوا، وكما خدمتهم بإخلاص عصبية الدولة المستقلة؟
آخر ما سمعت، بعد استيراد الخبز الإماراتي، استيراد الجزائر البصل. أعيش على مشارف الغرب الجزائري، ولا يوجد في قبيلتي فلاح مُسِن لا يحدثك عن الوفرة في الضيعات الكولونيالية، زمن الاحتلال. بل كل إنتاج سهوب الحلفاء من حبال وحُصُر، بالنجود العليا المغربية، كانت له وجهة واحدة: الضيعات الفرنسية في الجزائر. حتى الأرشيف الكولونيالي يشهد على حجم ما كانت فرنسا ما وراء البحار تغذي به نفسها في أوروبا، ولا سيما من الجزائر والمغرب.
اعتباراً لهذه المآلات التي لا نرضاها، مغاربيّاً، للجزائر، ولو أن وجهها الرسمي بعصبية مقيتة، يمكن النظر إلى "صوناتراك"، وقد تأسست غداة الاستقلال، على أنها الديناصور الذي التهم الأخضر واليابس، كما قيم المواطنة وأخلاق الثورة، في الجزائر. مؤسسة بحجم دولة لتحرير المحروقات استعبدت شعباً كاملاً، من دون أن تجعل منه سيد طعامه.
تصوروا أن ساكنة حاسي مسعود تسجل اليوم، في انتفاضتها، مطالب قروسطية في منتهى الغرابة: الحق في رخص البناء، الحق في الاستثمار، الحق في السكن اللائق، الحق في التظلم. وتصوروا أن تكون مطالب الجنوب الجزائري النفطي لا تتجاوز العيش الكريم. وما الذي جعل مالكية غرداية تصارع أباضيتها، لولا بطالة الشباب، وضعف البنيات الاقتصادية كلها، وانعدام التعليم والترفيه؟
كل مقومات الجزائر الخضراء متوافرة، ويقدر بعضهم المخزون من الماء بسعة الأبيض المتوسط، عدا إمكانيات التحلية البحرية، والتي لو توافرت للمغرب لكفى كل العرب غذاءهم. أين المشكل؟ ولماذا لم تستفد الدولة من أزمة عائدات البترول في مستهل الثمانينيات، لتقسم ألا تجوع أبداً؟
لا أرى من مشكل عدا كون ثقافة الفلاحة محتقرة في الجزائر، لأنها مغربية المحتد والأصل. فحينما أعلن الراحل الحسن الثاني، في مستهل الستينيات، شعار المليون هكتار، ونزله سدوداً فاتحة الأكف للسماء، ومغذية العروق في الأرض، كانت الجزائر تقيم نُصُباً للينين وستالين، وتستضيف الجنرال الفتناميجياب، بطل ديان بيان فو، لتهدد به المغرب الفلاح الذي لا يفهم في الاشتراكية.
صوناتراك تبيض ذهباً كل دقيقة، أما بطاطسك أيها المغربي الحسود، فقصيدة حولية رديئة. تَحَرُّك العسكر، كما اقتصادُه، مُستعجل دائما. لا حاجة لمن خطف دولة بـ"ريحة لبلاد" المغربية، ولا بقيم المواطنة، ولا بطلاء الأخلاق. هكذا، قررت الجزائر العسكرية أن تجوع الجزائر الشعبية، نكاية في المغرب. وهذا ليس خطأ متدربين، بل خطأ كارهين.
يسهل، الآن، فهم كيف تتقبل الجزائر العسكرية اشتعال النار في قلبها، وجريان حدودها، وليس سدودها، سلاحاً وإرهاباً وإمارات داعشية، إضافة الى جوار شرقي وجنوبي متفسخ حد النتانة، على أن تجلس مع الحكمة المغربية، والعتاقة التاريخية، والإبداع الاقتصادي الناشئ للانطلاق على أسس مغاربية جديدة، يفرضها هذا العالم الذي يمسي على حال، ليصبح على حال أخرى. أُسُس تقطع مع تهور ذي القرنين، وهو يبحث عن مشرق الشمس في مغربها.
كل المؤشرات تؤكد أن أسعار البترول والغاز لن تعاود الصعود في المديين، القريب والمتوسط، اعتباراً للوفرة وعدم قابلية روسيا وإيران للانهيار قريباً. نصيحتي أن تستخرج الجزائر نفط الحكمة الذي لا يقدر بثمن، ولا بأس أن يُمدد الرؤساء فترات تدريبهم. لكن، في الضيعة المغربية التي لن تجوع أبداً.
مقالات أخرى
19 يونيو 2015
12 يونيو 2015
06 يونيو 2015