بقدر ما لا أسعى إلى استبعاد المقاربات الاقتصادية والسياسية مرّةً أخرى، بقدر ما تقوم هذه المقاربات نفسها باستبعاد البديهية الصارخة الآتية: إن الحرب مسألة يقرّرها الرجال ويقومون بتدبيرها، وهم أغلب ضحاياها.
في كتاب لها يحمل عنواناً مستفزّاً "الهيمنة الذكورية غير موجودة"، كتبت فيلسوفة العلوم بيغي ساستر: "كان الرجال، في بداية القرن الواحد والعشرين يشكّلون 97% من القوّات المسلحّة في العالم و99% من الجيوش المقاتلة، مع استثناءٍ صغير يتعلّق بإسرائيل. وإن كانت أغلب النساء المجنَّدات يقمن بخدمات في المستشفيات وفي مكاتب القوّات المسلَّحة الإسرائيلية [جيش الاحتلال/ المترجم]. وخلال القرن العشرين، هلك سبعة وثمانون مليون ونصف مليون من الناس في النزاعات المسلّحة، من ضمنهم أربعة وخمسون مليون مدني، ثلثهم رجال".
وبناءً على ذلك، يظلُّ المشكل قائماً. إذا رغبنا في فهمه ينبغي في البداية أن نعترف بوجوده. فالذكَر من البشر يجسّد مشكلاً عالمياً. فالضرورة تقتضي من كل رجل على وجه البسيطة أن يُثبت أنه رجل بالفعل، ضرورة على وشك أن تهدّد الحياة على وجه الأرض. ليس هناك من أحد ينادي: "اقتربي، إن كنت امرأة!". وإن كان هذا الأمر لا يستساغ بالنسبة إلى سيمون دوبوفوار، أرى أن الأنوثة لا يبرهَن عليها، وأن ما يبرهَن عليه إنّما هو الذكورة/ الفحولة. فكيف نتعامل مع هذا المشكل لكي نتمكّن من استيعابه؟
كانت صديقتي الفيلسوفة والمؤلّفة آني لوكليرك، لحظةَ وفاتها عام 2006، بصدد تهييئ مؤلَّف حول موضوع العنف. من المؤسف أنَّ الموت لم يمهلها حتى تكمل هذا العمل! وهذه أوّلُ صفحة من ذلك المؤلَّف، وهي تستهوي بوضوحها ودقتها:
"ها قد وصلوا للتو. عراةً ضعيفين وعزّلاً، مهدّدين وجوعى، يرتعشون مفزوعين. [وأضافت المؤلفة بخط اليد:]. لا نعرف كيف تتحقّق معجزة تدارك هذا النقص الطبيعي. بالأداة والسلاح والفأس والساطور... بتحالف البائسين الصغار القادرين على قتل الحيوان الضخم والخطير، وتوفير الغذاء اللذيذ للجماعة وللصغار ضماناً للبقاء على قيد الحياة. بريق الاعتزاز وصحوة الضمير. هيّا إلى الصيد، وفي الصيد يتجلّى أوّل تقسيم للعمل بين الجنسَين؛ حيث أُسند استمرار الحياة للنساء، وأُسند ضمان البقاء للرجال، للرجل الصيّاد، صانع الأسلحة. فكان التزام الصرامة القصوى إزاء الرجال. الطبيعة الفائقة الأنانية للإشعار الرسمي والواعي لمواجهة الموت. تأجيج الوعي بالخطر وضمان الحماية من الخوف.
كان الإفراط في التسلُّح حمايةً من المخاطر والأمن من الخوف. اعتبار الدفاع هجوماً ضماناً لوقاية أفضل. المهاجم يتسلّح لكي يحقّق حماية أفضل. يتمّ استباق الهجوم الجديد بالمبادرة بالهجوم. يكشّر الخوف عن أنيابه، يُخرج أسنته القاطعة، ويشحذ نصال نباله، الخوف اعتداء والرعب إرهاب [وأضيف بخطّ يد الكاتبة: والعون يرجى ممّا هو إلهي]. والسبيل الأوحد في التوجُّه إليه يكمن في الإيمان بأن هناك آلهة وقيماً رفيعة وشمساً، وأن المجد إلى جانبنا ... وأننا نملك ما لا يملكه الآخرون، نملك النساء".
الخوف حاضر هنا منذ البداية. إنه الموسيقى الخلفية، لحن الباص كونتينيو(basso continuo) المرافق لنوعنا البشري. وللتغلّب على هذا الخوف، تمّ ابتكار الأديان والأساطير والقصص. أستشهد هنا بناشري وصديقي هيبر نيسان الذي يقول إن [اكتشاف] الإنسان للتخييل حصل بالتأكيد قبل اكتشاف النار، ويُحتمَل أن يكون قد نشأ داخل شبكة خلايا عصبية إلى جانب الحركة والكلام، وظلَّ التخييلُ لفترة طويلة شفهياً قبل أن يُصبح مكتوباً ومطبوعاً لاحقاً. وقد استُعمل منذ البدايات لإخفاء الجهل بأصولنا، ولكبح جماح الخوف من المجهول، كما استُعمل لتبرير السلطات التي يستمدّها منه المحتالون والدهاة وقد بقي لنا شيء منه".
كلّ الحيوانات تتوفّر على قرون استشعار تنذرها بوجود حيوانات مفترسة أو أخطار، غير أن "هوائيات"/ آليات استشعار الكائنات البشرية تعمل باستمرار، فهي تدرك مسبقاً، وعلى نحو مؤكّد، أن الموت يُمكن أن يدركها في أية لحظة من لحظات حياتها، بحيث كلّما كانت للإنسان "هوائيات"/ أعضاء استشعار، كلّما كانت حظوظه وافرةً لنشر مورّثاته.
ولنستشهد بـ بيغي ساستر من جديد: "علينا أن لا ننسى أنّنا حفدة القردة الذين كانوا يخافون الأعشاب حينما تحرّكها الريح، كما أن مجرّد ظهور أحد الضباع في الأدغال يجعل مساعديهم باردي الأعصاب يختفون إلى الأبد. لقد صار اللون الأخضر اليوم هو ذلك اللون الذي ترصد العين البشرية أكبر عدد من تلويناته/ من تنويعاته ودرجاته".
إن ما تسكت عنه الخطابات التي تعالجُ العنف البشري وليس العنف الذكوري، هو مدى شعور الإنسان بالضعف والضآلة والقلق وقلّة الوسائل. ثم إلى أي حد يحتاج الناس إلى ربط العلاقات فيما بينهم على المستوى الأفقي ليكونوا أصدقاء صفّ واحد، يلبسون الزيَّ ذاته سواءً تعلّقَ الأمر بالمئات من الأساقفة وهم في مجالسهم الكاثوليكية يرتدون قلنسواتهم وملابسهم الكهنوتية؛ أو بقوّات المارينز وهم يرتمون أرضاً للقيام بثلاثمائة تمرين عضلي للضغط؛ أو كانوا من الكشافين أو أعضاء في الشبيبة الهتلرية يردّدون الأغاني ويتسلّقون الأشجار جماعة؛ أو كانوا من هنود البوروبورو الذين يرقصون مرتدين تنّوراتهم؛ أو كوبيّين ماركسيّين يسيرون على خطى تشي غيفارا؛ أو كانوا داعشيّين مندفعين اندفاعاً أهوج. فالرجال حين يجتمعون فيما بينهم، يشعرون بأنهم أقوياء أكثر ممّا يحسّون بذلك وهم أمامنا نحن النساء أو تحت أنظارنا أو على أسرّتنا.
ذلك ما يُظهره فيلم "أنا كوبا" الذي أخرجه ميخائيل كالاتوزوف سنة 1964، حيث يوضّح ذلك بطريقة بارعة، لكن غير مقصودة لذاتها مع الأسف. ولا يسع الذي يشاهد هذا الفيلم في الوقت الحاضر إلا أن يصدم بالتشابه الحاصل بين الدعاية الشيوعية في الماضي والدعاية السلفية في الوقت الراهن. يظهر "الجحيم" في بداية الشريط: وهو مجسَّد في الليالي المجنونة بهافانا إبان فترة الاستعمار: رقص وموسيقى وأقنعة ونساء وانحراف وخمر ودعارة. ثم تظهر "الجنّة" في نهاية الفيلم: يمثّلها عالم ذكوري مئة بالمائة، شباب ملتحون حازمون ومتحمّسون في تقديسهم "زعيمَ الثورة العظيم" (Lider Maximo) يدل كاسترو، يتطاير الشرر من أعينهم، وهم جاهزون للموت من أجل النضال في معركتهم العادلة ضد العدو.
لنُعِد ونستعِد ما سبق: يخاف الكائن البشري الواعي بفنائه الموتَ، والسبب المعقول في ذلك يعود إلى أن العالم من حوله محفوف بالمخاطر من قبيل الاضطرابات الجوية والكوارث الطبيعية والأعداء سواء أكانوا بشراً أم حيوانات. فهل كان الأعداء من الحيوانات قبل أن يصيروا بشراً؟
تلك هي أطروحة بروس شاتوين المغرية في مؤلّفه "أنشودة الطريق"، إذ يقول: "لنفترض أننا وضعنا جانباً كل الكلام المتسرّع بخصوص العدوان، ووجّهنا اهتمامنا كلّه نحو قضية الدفاع. لنتخيّل أن الخصم في السهول الإفريقية، لم يكن مجسَّداً في الآخرين وفي القبيلة الأخرى؛ وأن شحنات الأدرينالين، التي كانت تنعش الحماسة القتالية، إنما تعود إلى ضرورة الحماية من السنّوريات الضخمة. ولنفترض أن الأسلحة لم تصمَّم في البداية من أجل الصيد بل من أجل الدفاع عن الذات، وأننا لا ننتمي إلى صنف الحيوانات الضارية أكثر مما نحن صنف يعيش تحت رحمة الحيوانات المفترسة، وأننا مررنا بفترة حرجة، كان فيها الحيوان على وشك الانتصار".
وكيفما كان إغراء هذه الأطروحة، فإنها أغفلت الصبغة الداروينية المتعلّقة باستمرار العنف لدى الكائن البشري الذكوري وتثمين الأنثى له مما قوّاه وراثياً على مدى آلاف السنين. في الواقع، لا يتعلّق التطوّر بالانتخاب الطبيعي فقط (حيث يُقصى الضعفاء، وينقل الأقوياء مورّثاتهم إلى خلفهم)، بل يتعلّق كذلك بالانتقاء الجنسي (حيث تقوم الإناث باختيار الذكور الذين يفضّلن الإنجاب منهم). مكَّن تفضيل الإناث للذكور العنيفين على امتداد التاريخ البشري من مضاعفة إمكانية الحفاظ على البقاء، فمن جهة، كان الأب القوي قادراً على تغذية أسرته وحمايتها، ومن جهة أخرى، كانت جيناته العدوانية تنتقل إلى أبنائه بالوراثة. فخلال ملايين السنين، حيث كان الرجال يقومون بالقنص والقطف، كانت الأمور تسير نحو الأفضل في عالم من أصعب العوالم.
إن الطبيعة لا تبالي بما هو مقبول سياسياً ولا تتيح إمكانية السلم بل تتيح إمكانية الحفاظ على البقاء. وهذا لا يعني أن كل شيء كان مقرّراً سلفاً، وإنما يعني أن قناعاتنا في مجال المساواة المهذبة لا تكفي لإلغاء أربعة ملايين سنة من تطور النوع البشري.
أنتقل بسرعة، لأرسم الصورة وأضع خطّة للعمل: لقد كان ممكناً أن تظهر في هذا الجزء من عالمنا بعض المفاهيم المتفرّدة، وذلك راجع إلى الاغتناء المدهش الناجم عن التصنيع، الذي نتج بدوره عن الاستعمار والاستعباد واستغلال الطاقة الجسدية لحشود هائلة في المصانع. ويتعلق الأمر بمفاهيم: حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحق التصويت النسائي والنضالات النسائية... ومن البدهي القول إن هذا التقدّم لفائدة المساواة قد تحقّق على مدى قرنين وجيزين تقريباً، لكنه لم يؤثّر بعد تأثيراً ملحوظاً على الجينوم البشري.
فالذكور من البشر، مثلهم مثل ذكور قردة الغوريلا والشامبانزي، ما يزالون مبرمَجين على استعراض العضلات، فهم يتنافسون ويتعاركون فيما بينهم. أما النساء فمازلن يفضلن الرجال الأغنياء والأقوياء. فتكون نتيجة هذا السباق: أن العالم المعاصر تغلُبُ عليه آثار العنف الذكوري غير المتحكم فيها.
ذلك ما يحسن روبير بلاي إيجازه قائلاً: "يرث الفتيان الطاقات الجسمية التي تطوّرت على امتداد آلاف السنين، بينما ترث أرواحهم السلطة الروحية والنفسية المكتسبة منذ قرون". فالعدوانية والعنف الذكوريّان، اللذان ساعدانا على الحفاظ على البقاء لفترة طويلة، أصبح لهما تأثير سلبي وانقلبا علينا، وصار بإمكانهما من الآن فصاعداً تدميرنا.
في الغرب الحديث، فُوِّض العنف الجسدي إلى الدولة بينما ثُني الأفراد عن القيام به؛ وبذلك أصبحت العلامات المقبولة للقوة الرجولية الفردية هي: النجاح الاجتماعي، والمال، والسلطة. غير أن عدداً كبيراً من الذين لا يملكون هذه الوسائل للتعبير عن رجولتهم، ما يزالون متشبّثين بالوسائل التقليدية. لذلك عندما يظهر العنف الشديد فجأة في محيطنا، عندما لا تجد عصابة من "الهمج" ما تقوم به إلا أن تقتل وتنتهك بالقرب منا وأمام أنظارنا، يكون ذلك صادماً لنا.
نصيح بقوة قائلين: "هذا أمر مرعب! هذه فضيحة! كيف يجرؤ هؤلاء الهمج على الهجوم على أجمل ما يميّز حضارتنا الرائعة، على شبابنا متعدّد الألوان، شبابنا الحر والضحوك؟ هؤلاء ليسوا بشراً!". ورد ذلك في مقال "الجمهورية في مواجهة الهمجية" وهو عنوان مقال هام بجريدة لو جرنال دو ديمانش (Journal du dimanche)، عشية اعتداءات 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015".
والحال أننا حين نحتسي الكؤوس على شرفاتنا ونحضر حفلات الروك حيث يستمتع فتياننا اللطيفون وغير الجنسانيين برؤية صديقاتهن وهن يرتدين التنورات أو سراويل الجينز، كما يحلو لهم، ننسى يوماً بعد آخر وشهراً بعد شهر وسنة بعد أخرى أن آلاتنا العسكرية ذات التكلفة الهائلة والفعّالة تقوم بقلب أنظمة حكم في دول وتمحو من الخريطة مدناً برمّتها، ننسى أن حكوماتنا تسمح بإقامة مراكز للتعذيب تابعة لـ "وكالة الاستخبارات الأميركية" (CIA) على أراضينا، وأن تكنولوجياتنا المتطوّرة تستنزف الأراضي الخصبة وتفرّغ مناجم البلدان الفقيرة من عمّالها، وأن هواتفنا الذكية تشتغل بفعالية بسبب وجود أطفال مجنّدين بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وهلّم جرا.
نحن لا نسمع بكاء الأطفال العراقيّين حين تتساقط القنابل على رؤوسهم وتحرق بيوتهم، كما أننا لا نشعر برعب الأمهات الأفغانيات وبيأسهن. في قصيدة "حرب" التي اقتطفنا مقطعاً منها في الاستهلال، يستحضر ش. ك. وليامز الآلهة القديمة، القوية واللامبالية.
ثم يضيف: "يجوز لنا أن نقول إنهم مثل ربابنة يقودون، في أيامنا هذه، طائرات مقاتلة مجهّزة برادارات وأشعّة ما تحت الحمراء، تحوم من علٍ فوق هدف شامل، لا نسمعها ولا نراها، هدف رقمي يشتعل وكأنه نار صوفية ترتفع منها سحابات دخان من نواة متبخرة".
الهمجية ليست لا إنسانية، بل إنسانية؛ إذ لا تتعاطى بها الحيوانات ولا الكائنات الفضائية، حسب علمنا فالهمجية جزء من تاريخ النوع البشري وحده منذ أن كتب تاريخه، والأمثلة على ذلك لا حصر لها. يكفي أن ينحني المرء لكي يلتقط بعضاً منها. يوجد الغرب في العمق جهةَ "اللا إنسانية" الفعلية، وفي هذا الفصل المذهل بين الاقتصاد الشمولي والسلوكات اليومية، بين اعتقادنا الهادئ بأننا نحن "الأخيار" وبين انخراطنا الشارد في سياسة النهب العالمية.
صاحبة "أساتذة اليأس"
ذهبت الروائية والباحثة الكندية نانسي هيوستن (1953)، إلى باريس عام 1973، لتقدّم أطروحة عن "الكلمات البذيئة" تحت إشراف رولان بارت، وهناك التقت تزيفتان تودوروف وتزوّجته وأنجبت منه ولدَين. كتبت 15 رواية، أبرزها "وجوه الفجر"، و"صكوك الظلام"، و12 دراسةً، أبرزها: "أساتذة اليأس"، الذي نقله إلى العربية المترجم وليد السويركي وصدر عن مشروع "كلمة". لها مسرحيتان وكتابان في مراسلاتها: الأول "أن تحب مثلما تحارب" والثاني "تشريح المنفى".
* ترجمة جلال الحكماوي ومراجعة محمد زرنين