يواصل قصي أبو عودة البحث، عبثاً، وسط ركام منزله، عن صور الطفولة وشهادات المدرسة التي نالها خلال 26 عاماً من عمره.
لم ينتشل الشاب سوى القليل منها. فالمنزل الذي هدمه العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ترك قصي يشعر بالمرارة، على ذكريات دفنت تحت الأنقاض.
في غمرة العدوان، الذي استمرّ أكثر من خمسين يوماً، يستحيل على المرء التفكير بالبحث عن صوره وأوراقه وذكرياته. الهمّ، كلّ الهمّ، كان إنقاذ الأرواح، والرحيل فوراً عن المساكن والمنازل، وهي تتعرض للقصف، أو تتلقى إنذارات بالإخلاء، قبل قصفها.
يقول قصيّ إنّه غادر المنزل مع عائلته، على عجل، هرباً من القذائف المدفعية، التي كانت تسقط على بلدة بيت حانون، شمال قطاع غزة. ولم يخرج أفراد العائلة سوى بالملابس التي يرتدونها، أملاً في النجاة، على أن يعودوا بعد حين. عادوا فعلاً، لكن إلى منزل مدمّر "لم يبق منه سوى جدار، كنت قد ألصقت عليه صوراً وشهادات، وما زلت أبحث بين الأنقاض".
يضيف قصيّ: "كيف أنسى تفاصيل 26 عاماً قضيتها بين جدران هذا المنزل الذي ولدت فيه. صحيح أنّ بيتنا كان عادياً جداً، لكن لن يعوّضه أي منزل آخر، حتى وإن كان قصراً".
كذلك، تملأ الغصة صدر أحمد فروانة، عندما يتحدث عمّا فقده. فالقصف على منزل أحمد في منطقة الشغف، شرق القطاع، أدى إلى احتراقه بالكامل، واحتراق كلّ ما فيه. أمّا أكثر ما يأسف عليه، فهو ألبوم صور زفافه.
يقول فروانة لـ"العربي الجديد"، إنّ تلك الصور كانت تعني له الكثير. بل يعتبرها من أهم مقتنياته الشخصية، لكنه لم يتمكن من إنقاذها. يصف الوضع يومها بقوله: "مع اشتداد القصف لم يكن بوسعي سوى حمل أطفالي والخروج على عجل نحو المناطق الأكثر أمنا. لم أفكر في تلك اللحظة سوى في حمايتهم وحماية زوجتي". "أغلى ما أملك" تلك المتعلقات الصغيرة قد لا تعني شيئاً للبعض، لكن بالنسبة لأصحابها فإنّها تعني الكثير.
ومن تلك الأغراض، كرة قدم احتفظ بها الفتى محمود حسونة طوال سنوات. كان يلعب مع أصحابه، في حي الشجاعية، بها. ذلك الغرض الثمين، الذي يتشارك كثير من الأطفال في ركله، والتنافس في رميه إلى المرمى، لم يختفِ تماماً.
فمحمود، الذي أدى القصف إلى دمار منزله، تمكن من العثور على كرته، وسط الركام. وعلى الرغم من أنّها لم تعد صالحة للعب، فإنّه ينوي الاحتفاظ بها. يقول الفتى: "سأحتفظ بها لأنها تعني لي الكثير، ولأن العديد من أصدقائي الذين شاركوني اللعب فيها، استشهدوا خلال الحرب".
بالنسبة لحسن كريّم، يبدو الأمر مختلفاً. فالفتى الذي يعشق، وأشقاؤه، تربية الطيور، فقد "أغلى" ما لديه. وهي مجموعة من طيور الزينة الجميلة التي نفق معظمها، وسط ركام منزل العائلة في الشجاعية، وطار الباقي، باستثناء عصفور واحد.
يقول حسن: "قبل أن نغادر المنزل كنت أخطط لحمل الأقفاص معي عن السطح، لكنّ والدي رفض، مع خطورة جلبها من هناك في ظل القصف. لذلك غادرنا من دونها". ويشير الفتى إلى أنّه فقد الكثير من أصدقائه وأقاربه خلال الحرب. حزن كثيراً على رحيلهم، لكنه حزن أيضاً وبشدة على عصافيره التي اعتنى بها منذ كانت صغيرة جداً، إلى أن أصبحت رفيقته اليومية.
طارق الحلو أيضاً فقد منزله. بل هي شقته التي كانت من ضمن البرج السكني الكبير، الذي دمّر بالكامل، في وسط مدينة غزة. يقول الحلو إنّه يعجز عن إيجاد إجابات لأسئلة أطفاله اليومية عن مصير ألعابهم التي تلاشت بين الركام. وكذلك عن مصير كلّ ما تملكه العائلة.
ويؤكد أنّ أطفاله لن ينسوا ما حصل، حتى ولو جلب لهم ألعاباً مشابهة. فما حصل في غزة من عدوان وقصف وتدمير يحمله الجميع معه، حتى الأطفال، بخلاف أمور كثيرة تضيع من الذاكرة.