يقدّم الروائي الكويتي الشاب عبدالله البصيّص، نفسه بشكل جيد من خلال عمله الأول "ذكريات ضالّة". العمل الذي جاء إشكاليّا في ذاته والرؤية التي ينطوي عليها، أثار جدلاً في الكويت بعد أن قررت رقابة المطبوعات في وزراة الإعلام منعه، ما حدا الكاتب لرفع قضية على الرقابة لا تزال منظورة في القضاء.
تحكي الرواية قصة ضابط في جهاز الأمن يطارد لصّاً خطيراً يقوم بعمليات سطو متكررة دون أن يتمكن الأمن من الإيقاع به، في الوقت الذي تدور فيه شائعات حول قواه الخارقة التي تجعله يفلت بفعلته مرة بعد أخرى بكل يسر. يتوقّف هذا الجزء من القصة ليرجع الروائي بقصته إلى مرحلة طفولة الشخصيات فيؤسس للأحداث، قبل أن يختم العمل بالعودة إلى الحاضر ويتمّ ما بدأه إلى منتهاه. لكنْ كل هذه الحكاية تأتي مسبوقة بحيلة سردية على شكل تمهيد يأتي على لسان الروائي ويحكي فيه قصة لقائه بشابّ مقعد عند أبراج الكويت سلّمه مسودة كانت هي الرواية التي بين أيدينا في آخر المطاف. وهنا يبرز سؤال حول مدى الاضطرار لهذه الحيلة خاصة وهي تتقاطع بشكل أو بآخر مع رواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي و"لا تقصص رؤياك" لعبدالوهاب الحمادي.
وبعيداً عن هذه الإشارة الهامشية، فإن القارىء سيلاحظ بجلاء تلك البداية الآسرة للنص والتي تأخذ بتلابيبه وتحبس أنفاسه صفحة بعد أخرى. وهنا يبرز تمكّن عبدالله البصيّص الذي لجأ لمشاهد سريعة بجمل قصيرة شكّلت جميعها الأجواء الأنسب لعالم الجريمة والبوليسية الذي افتتح به عمله. لكنْ لم تكد الخمسين صفحة الأولى تنقضي حتى قطع البصيّص حبل سرده، وربطه بآخر حين عاد بشخوص روايته إلى فترة الثمانينيات الميلادية حيث الطفولة التي تؤسس للأحداث في مستهلّ العمل.
هذه العودة أو "الفلاش باك" جاءت ناعمة وسلسة وضرورية لمعرفة خلفيات الشخصيات وفهم دوافعها، كما أنّها استصحبت مستلزماتها على مستوى اللغة التي اختلفت هنا عن البداية السريعة فجاءت هادئة متأملة بجمل أطول تلائم إلى حد بعيد الاغتراف من الذاكرة واستحضارها. حدث ذلك بانضباط واعٍ ودون إغراق في الشعرية. ولعلّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ إحدى نقاط القوة لدى البصيّص هي جمله السردية المتدفقة بيسر دون نتوءات تُفسد انسياب النصّ وجريانه نحو غايته.
لكن ثمة ملاحظة هنا تتعلّق بطول هذا الجزء من النص، فهناك نحو خمسين صفحة في البداية، ثم تتمة لها في نهاية العمل تزيد قليلاً عن العشرين صفحة، وما بينهما "للفلاش باك" الذي يقترب من المئة والخمسين صفحة. هذا الاستحواذ الكبير لتقنية الاسترجاع على العمل يُخرجها من دورها التأسيسي لخلفيات النص لتكون هي النص، وهنا يجدر استحضار مقولة الروائية نانسي كريس: "إذا كانت حكايتك في الماضي أقوى، لتكن القصة هناك في الأساس". إذن هذا الاستغراق قد يخالف شرط استخدام العودة للوراء بحيث تكون عودة سريعة كفاصل مثير، إلا إذا كانت تلك العودة هي الحكاية الأم مسبوقة بتمهيد خادع. ويحسب للبصيّص أنه استوفى بقية شروط اللجوء لهذه التقنية حين رمى للقارىء طُعماً مغرياً يحفّزه على الرجوع للحاضر بمجرد الانتهاء من تلك العودة الضرورية. كما أنّه لم يلجأ للماضي إلا بعد التأكد من رسوخ الحاضر لدى القارىء بتلك البداية القوية.
في هذا النص سنلحظ أيضاً كيف أتقن الروائي نحت شخوص روايته وتشكيل أبعادها، فكل شخصية من شخصيات العمل لها إطار واضح المعالم على مستوى الملامح أو الدوافع والسلوك، رغم حالات التقاطع التي كان يمكن لها أن تتحوّل فخاخاً غير أنّ البصيّص نجا منها باقتدار. يظهر ذلك جليّا في شخصية النقيب سلمان، الشخصية المحورية التي استقتْ صفاتها من الكلب، وتم التأسيس لها بوعي منذ عتبة النص "الوفاء كلب الروح". سلمان الذي كان يشارك الأطفال رحلة صيد وتعذيب كلاب الحيّ، كان في الواقع يُمعن في الانتقام من نفسه، من مشاعره المتناقضة التي يمقتها دون أن يستغني عنها. هذا الاعتناء حصلت عليه كل شخصيات العمل، حتى المنشار، اللص الذي لم يستطع أحد رؤيته أو الإمساك به غير أنّ أجواءه المحيطة كرّست حضوره ومنحته التفرد اللازم.
تمرّ "ذكريات ضالّة" على مواضيع عدة، قضية البدون الشائكة وهي تغرس الحواجز والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وغزو العراق للكويت وما خلّفه من آثار عصية على المحو، وفساد أجهزة الأمن وتغوّلها على النظام الذي تتغنى به، كل ذلك تمّ تناوله برشاقة أبعدتْ عنه تهمة الإقحام والافتعال. غير أنّ المادة الأساسية التي غرفت منها الرواية كانت الإنسان الذي يقف أمام نفسه بتجرّد ليرى حجم التشوهات التي تطاول روحه، ويدرك مدى الحاجة للعودة إلى حيث كان كل شيء نقيّاً. تلك العودة التي تبدو مستحيلة في الغالب، وبعد فوات الأوان في أحسن الأحوال.
(كاتب إريتري)
تحكي الرواية قصة ضابط في جهاز الأمن يطارد لصّاً خطيراً يقوم بعمليات سطو متكررة دون أن يتمكن الأمن من الإيقاع به، في الوقت الذي تدور فيه شائعات حول قواه الخارقة التي تجعله يفلت بفعلته مرة بعد أخرى بكل يسر. يتوقّف هذا الجزء من القصة ليرجع الروائي بقصته إلى مرحلة طفولة الشخصيات فيؤسس للأحداث، قبل أن يختم العمل بالعودة إلى الحاضر ويتمّ ما بدأه إلى منتهاه. لكنْ كل هذه الحكاية تأتي مسبوقة بحيلة سردية على شكل تمهيد يأتي على لسان الروائي ويحكي فيه قصة لقائه بشابّ مقعد عند أبراج الكويت سلّمه مسودة كانت هي الرواية التي بين أيدينا في آخر المطاف. وهنا يبرز سؤال حول مدى الاضطرار لهذه الحيلة خاصة وهي تتقاطع بشكل أو بآخر مع رواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي و"لا تقصص رؤياك" لعبدالوهاب الحمادي.
وبعيداً عن هذه الإشارة الهامشية، فإن القارىء سيلاحظ بجلاء تلك البداية الآسرة للنص والتي تأخذ بتلابيبه وتحبس أنفاسه صفحة بعد أخرى. وهنا يبرز تمكّن عبدالله البصيّص الذي لجأ لمشاهد سريعة بجمل قصيرة شكّلت جميعها الأجواء الأنسب لعالم الجريمة والبوليسية الذي افتتح به عمله. لكنْ لم تكد الخمسين صفحة الأولى تنقضي حتى قطع البصيّص حبل سرده، وربطه بآخر حين عاد بشخوص روايته إلى فترة الثمانينيات الميلادية حيث الطفولة التي تؤسس للأحداث في مستهلّ العمل.
هذه العودة أو "الفلاش باك" جاءت ناعمة وسلسة وضرورية لمعرفة خلفيات الشخصيات وفهم دوافعها، كما أنّها استصحبت مستلزماتها على مستوى اللغة التي اختلفت هنا عن البداية السريعة فجاءت هادئة متأملة بجمل أطول تلائم إلى حد بعيد الاغتراف من الذاكرة واستحضارها. حدث ذلك بانضباط واعٍ ودون إغراق في الشعرية. ولعلّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ إحدى نقاط القوة لدى البصيّص هي جمله السردية المتدفقة بيسر دون نتوءات تُفسد انسياب النصّ وجريانه نحو غايته.
لكن ثمة ملاحظة هنا تتعلّق بطول هذا الجزء من النص، فهناك نحو خمسين صفحة في البداية، ثم تتمة لها في نهاية العمل تزيد قليلاً عن العشرين صفحة، وما بينهما "للفلاش باك" الذي يقترب من المئة والخمسين صفحة. هذا الاستحواذ الكبير لتقنية الاسترجاع على العمل يُخرجها من دورها التأسيسي لخلفيات النص لتكون هي النص، وهنا يجدر استحضار مقولة الروائية نانسي كريس: "إذا كانت حكايتك في الماضي أقوى، لتكن القصة هناك في الأساس". إذن هذا الاستغراق قد يخالف شرط استخدام العودة للوراء بحيث تكون عودة سريعة كفاصل مثير، إلا إذا كانت تلك العودة هي الحكاية الأم مسبوقة بتمهيد خادع. ويحسب للبصيّص أنه استوفى بقية شروط اللجوء لهذه التقنية حين رمى للقارىء طُعماً مغرياً يحفّزه على الرجوع للحاضر بمجرد الانتهاء من تلك العودة الضرورية. كما أنّه لم يلجأ للماضي إلا بعد التأكد من رسوخ الحاضر لدى القارىء بتلك البداية القوية.
في هذا النص سنلحظ أيضاً كيف أتقن الروائي نحت شخوص روايته وتشكيل أبعادها، فكل شخصية من شخصيات العمل لها إطار واضح المعالم على مستوى الملامح أو الدوافع والسلوك، رغم حالات التقاطع التي كان يمكن لها أن تتحوّل فخاخاً غير أنّ البصيّص نجا منها باقتدار. يظهر ذلك جليّا في شخصية النقيب سلمان، الشخصية المحورية التي استقتْ صفاتها من الكلب، وتم التأسيس لها بوعي منذ عتبة النص "الوفاء كلب الروح". سلمان الذي كان يشارك الأطفال رحلة صيد وتعذيب كلاب الحيّ، كان في الواقع يُمعن في الانتقام من نفسه، من مشاعره المتناقضة التي يمقتها دون أن يستغني عنها. هذا الاعتناء حصلت عليه كل شخصيات العمل، حتى المنشار، اللص الذي لم يستطع أحد رؤيته أو الإمساك به غير أنّ أجواءه المحيطة كرّست حضوره ومنحته التفرد اللازم.
تمرّ "ذكريات ضالّة" على مواضيع عدة، قضية البدون الشائكة وهي تغرس الحواجز والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وغزو العراق للكويت وما خلّفه من آثار عصية على المحو، وفساد أجهزة الأمن وتغوّلها على النظام الذي تتغنى به، كل ذلك تمّ تناوله برشاقة أبعدتْ عنه تهمة الإقحام والافتعال. غير أنّ المادة الأساسية التي غرفت منها الرواية كانت الإنسان الذي يقف أمام نفسه بتجرّد ليرى حجم التشوهات التي تطاول روحه، ويدرك مدى الحاجة للعودة إلى حيث كان كل شيء نقيّاً. تلك العودة التي تبدو مستحيلة في الغالب، وبعد فوات الأوان في أحسن الأحوال.
(كاتب إريتري)