شهدت ثمانينيات القرن الماضي اهتماماً كبيراً بالمنزع العقلي، لدى الوجوه التمثيلية للثقافة العربية-الإسلامية. وانكبَّ الباحثون، ومن أشهرهم محمد عابد الجابري ومحمد أركون وزكي نجيب محمود، على أسباب ظهور هذا المنزع وانتشاره، ثم أفوله. وربما يعود هذا الاهتمام إلى الرغبة في التصدّي لمظاهر اللاعقلانية الفاشية في الفكر العربي، ولهيمنة الرؤى الحَرفية في فهم النصوص الدينية. وقد اغتذت هذه المباحث بالمناهج التحليلية التي ازدهرت وقتئذٍ في كنف العلوم الإنسانية.
ومن أبرز مَن أسهم في إثراء هذا التيار النقدي، نصر حامد أبو زيد (1943-2010)، الذي تمرّ اليوم ذكرى ميلاده. فقد خصّص لهذا الموضوع الشائك كتاب "الاتجاه العقلي في تفسير القرآن، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة". ويُفسَّر أبو زيد اعتماده على مُدوّنة المعتزلة باعتبارهم أفضل مَن جسّد هذا التوجه العقلي. كما يُعلل بحثه في قضية المجاز بوصفها الأداة الرئيسة التي تَوسَّل بها هذا التيار الكلامي لإرساء المنزع العقلاني في تفسير القرآن.
ويُعدّ مفهوم "العقلانية" في كتب أبو زيد أداة إجرائيةً بالدرجة الأولى، تنطوي على سلسلة من المراحل المعرفيّة التي تَنظم عملية تأويل آيات القرآن، وقد قام الباحث المصري بتفكيكها حَسب المنهج الحفري الفوكولتي (فوكو). تبتدئ هذه العملية بالوقوف على ما قد يُوهم في الظاهر بالتناقض أو الغموض، مثل ما ورد في الآيات المتشابهة: "الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استَوى" أو "يَد الله فوقَ أيْديهم" وغيرها من العبارات التي تتضمّن تشبيه الذات الإلهية بالمخلوقات.
في المرحلة الموالية، تجهد البرهنة العقلية في نفي الاضطراب الظاهري، إذ كيف يستوي الله على العرش، مثل سائر مخلوقاته، وهو الذي لا يتحيّز؟ ففي الاستواء تحييزٌ له، والتحييز تحديدٌ مكاني، لا يليق بلا محدودية الله. وأخيراً، يُرفع هذا التناقض بالاستدلال على أنَّ "الاستواء" مجرد مجازٍ عن الإحاطة والعلم والاستيلاء. وهذا عينه رأي الزمخشري (القرن الخامس للهجرة)، من كبار مفسري المعتزلة. وبفضل هذه المنهجية التأويلية المتكاملة المستندة إلى مفهوم المجاز والتوسّع، تُضفى على النص القرآني معقوليتُه وينتفي عنه التهافت.
ومن أجل توضيح هذه المنهجية، أحال المفكر المصري بدرجة أولى على موسوعة "المغني" لعبد الجبار الأسدآبادي (القرن الخامس هجري)، التي اكتُشف مخطوطها الأوحد سنواتٍ قليلة قبيل تأليف أبو زيد كتابه، بعد أن ضاعت منه أربعة أجزاء. كما عاد إلى تفسير "الكشاف" للزمخشري (القرن السادس الهجرة)، وهو الذي اعتمد عليه في تفاسير المعتزلة، إذ وصلت نظرية الأصول الخمسة لديهم (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتيْن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، إلى أوج نُضجها الفكري.
وبالفعل، توسّع المعتزلة في تعقب كل الآيات المتشابهة، وجهدوا في تأويلها وتوجيهها بحسب معايير المنطق التي طبّقوها بصرامة على كل العقائد الإيمانية، مثل: الجبر والاختيار والحرية والجزاء الأخروي، ومسؤولية الفرد عن أعماله وعصمة الأنبياء وشفاعتهم... وقد دفعوا بأدلتهم العقلية إلى أقصاها، حتى عارضوا أحياناً صريح النصوص وظاهرَها، معتبرين أنّ المعنى الحقيقي لا يمكن أن يرتبط بحرفية النص وخطابه الصريح، بقدر ما يكمن في الشبكة التأويلية التي تُسلّط عليه.
وتوصّل أبو زيد إلى أنَّ المعتزلة وضعوا قواعد عامة للتأويل، تتناسب مع أصولهم الخمسة وتجعل من معاني القرآن، وهي المجازية التي لا تُفهم في حرفيتها، متوافقة أيضاً مع الحجج العقلية التي يعتمدونها مرجعيةً وحيدةً في قبول الأفكار أو ردّها. إذ لا صوتَ يعلو فوق صوت العقل حتى ولو كان النصَّ ذاته، لأنَّ العقل "ضرورة" وليس كسباً. وفي نفس الوقت، أنضج المعتزلة قواعد التأويل بطريقة، من شأنها أن تَمنع المعارضين والخصوم من البرهنة على عقائدهم والمنافحة عن خياراتهم التفسيرية.
ولذلك، اعتمد الباحث المصري على منهج المقارنة، وعرض مواقف الأشاعرة والمُجسّمة الذين حاولوا من خلالها إما تمرير معاني الآيات المتشابهة كما وردت دونما اجتهادٍ، فأثبتوا مثلاً الاستواء المادي لله، أو تأويلها بشكل بسيط، لا يرفع الالتباس ويُبقي على التناقض الظاهري.
وبهذا بَيّن صاحب "التفكير في زمن التكفير"، كما بَيَّن زميلُه المغربي سعيد بنسعيد العلوي، في كتاب "الخطاب الأشعري" (1992)، أنَّ عقائد الأشاعرة والمعتزلة إنما هي نتاج جدل فكري واختلاف تأويلي أكثر منها عقائدَ موحىً بها من السماء. كما استنتج أنّ التفسير ليس علماً مقدساً، بل هو نتاج نفس هذه الصراعات المعرفية والجدالات الكلامية بين مختلف تيارات الإسلام ومدارسه، وهي نفسها وليدة السياق السياسي والاجتماعي التي ظهرت فيه وتطوّرت.
ومن جهة أخرى، دلل أبو زيد على الارتباط الوثيق بين علوم القرآن وبين نشأة البلاغة وتطورها. وهذا يصح إلى درجة ما في أطوارها الأولى. ولكنّ الارتباط بينهما خفّ بشكل واضح في مرحلة ما بعد الجرجاني والسكاكي، كما أثبته الناقد المصري شوقي ضيف في كتاب "البلاغة تطوّر وتاريخ" (1965)، إذ استقل هذا الفنّ عن النظر الكلامي التيولوجي وصار صناعةً ألسنية قائمة الذات.
تجدر الإشارة إلى أنّ أعمال أبو زيد كانت جزءاً من بحث المفكرين العرب، نهاية القرن الماضي، عن المرجعية العقلانية في التراث والإعلاء من قيمتها، وربما دفَعه ذلك البحث إلى مبالغات أو إسقاطات، إذ المقدس بطبيعته غير عقلاني، ولا يمكنه أن يكون مجرّداً، وإلا فَقد كلّ وظائفه.
كما أنّ المناهج التي ظهرت في العلوم الإنسانية الغربية واستُقيت من مزاولة نصوصهم الثقافية قد لا تتناسب مع سياقات الإسلام المعقدة. ومع ذلك، يبقى هذا الكتاب اللبنة الأولى في البناء الفكري لنصر حامد أبو زيد، الذي تعمق في الأصول البلاغية والمعرفية لنظريات التأويل والقراءة والتفسير وربطها جميعاً بظروفها الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، وهو ما سيمثل العمود الفقري لنضاله، عقوداً طويلة، من أجل التحرر من القراءات الحرفية، ومن سلطة التراث على العقل، تخففاً من صراعات الماضي عبر إرجاعها لا فقط إلى سياقاتها التاريخية، بل وتنسيب مقولاتها الذهنية ومفاهيمها التأويلية، كالمجاز والمواضعة، وكلها تدور حول اللغة والفكر والمعنى.
ولا ريب أن النضال ضد الحرفية لا يزال في أولى مراحله، لا فقط في المجال العقائدي، بل في المجال السياسي. أليس الإرهاب بأنواعه سوى تنويعاتٍ عن القراءات الحرفية؟